د. حمدي السكوت : يقصد بقضايا الوجود قضايا نشأة الحياة ووضع الإنسان فيها ولغز الموت والحياة الأخري وغيرها وليس في كل هذه القضايا مشكلة بالنسبة للمؤمنين بالديانات, السماوية وغير السماوية,فقد تكفلت دياناتهم بشرح كل منها, وهؤلاء يشكلون غالبية البشر, ولاتوجد مشكلة أيضا بالنسبة للمثقفين الذين استبدلوا الدين بمذاهب من صنع البشر, مثل الماركسية والوجودية, وإنما المشكلة تواجه المثقف الحائر والمكترث دينيا الذي يؤمن بالله حقا, ولايقتنع بالدين, كما يمارسه عامة الناس ولا ب الماركسية أو الوجودية ولعل من المفيد أن نذكر هنا بالقضايا الأخري, التي لم تهتم أساسا بقضايا الوجود, ومنها علي سبيل التمثيل القضايا السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتاريخية وغيرها, وقد صورت روايات نجيب محفوظ فيها مئات الشخصيات التي انحدرت من مختلف طوائف المجتمع, من سكان الأزقة والعشش( حيث يستفحل الجهل والفقر والخرافة) إلي سكان الأحياء الشعبية المزدحمة إلي أحياء الطبقة المتوسطة, بدرجاتها المتفاوتة, من الناحيتين الثقافية والاجتماعية إلي سكان الفيلات والقصور.. وجمعت أعماله فيها بين الوفدي والأخ المسلم والشيوعي, والمسلم والقبطي, والمومس والمتصوف, وسارق أسنان الموتي والأم المكافحة... الخ. لكن قضايا الوجود الإنساني, وموقف المثقف منها, لم تظهر إلا بعد نشر رواياته التاريخية والاجتماعية( كفاح طيبة, وزقاق المدق, وبين القصرين وغيرها) فقد أخذت المبادئ الأولي للقضايا الرئيسية تبرز بشكل حقيقي لأول مرة, مع بداية أزمة كمال الفكرية في الجزءين الثاني والثالث من الثلاثية, حين اكتشف كمال عبد الجواد, أن محبوبته عايدة شداد, ابنة الباشا, التي أحبها حبا مثاليا جارفا وصادقا وعميقا, كانت تخدعه! وتبين أن ما كانت تظهره له من مودة ولطف كان لاستثارة حبيبها الذي يتنمي لطبقتها. وتضافر مع هذه الصدمة اكتشاف كمال لزيف كثير من معتقداته الأسرية, وعلي رأسها سلوك والده السري الشائن, كما كان لتزايد قراءات كمال الفلسفية والعلمية, أثر كبير في اكتشافه لزيف الخرافات التي كانت تشيع بكثرة في حيهم وفي الأحياء المجاورة, وعلي رأسها دفن رأس الحسين في ضريح مسجده القريب من بيت الأسرة, وأدي كل ذلك الزيف والخداع إلي اصابة كمال بداء الاغتراب الذي عرضت أسبابه وأعراضه هنا, بأسلوب تقريري جاف غالبا, ثم علي هيئة ذكريات عابرة, مؤلمة أحيانا وممتعة أحيانا أخري, فمن النوع الأول مثلا, حديث النفس التالي لكمال حول رأي صديقه اسماعيل في مقالاته هو: في زمن مضي كان يحتقر مثل هذا الرأي في عناد وثورة, أما الان فمازال يحتقره ولكن بغير ثورة, لكنه يشك في هذا الاحتقار, لا لشبهة في أنه في غير موضعه, ولكن لأنه احيانا يرتاب في قيمة ما يكتب وربما ارتاب في ارتيابه نفسه, ثم يعترف لنفسه ايضا بأنه قد ضاق بكل شئ ذرعا, وبأن الدنيا تبدو أحيانا كلفظة قديمة اندثر معناها( السكرية61) ومن النوع الثاني فصل يعد من أمتع فصول قصر الشوق يستدعي فيه سي السيد ابنه كمال أمام والدته, ليجري معه التحقيق المشهور, حول المقال الذي كتبه كمال شرحا لنظرية دارون, وكان الأب قد انزعج لما ورد في المقال من أن الانسان سلالة حيوانية! وكان التحقيق طويلا وحزينا ومضحكا في ذات الوقت, وجاء في ختامه:ألم تجد موضوعا غير هذه النظرية المحرمة لتكتب فيه؟ فيسأل كمال نفسه: لماذا كتب مقالته؟ لقد تردد طويلا قبل ان يرسلها إلي المجلة, ولكنه كان كأنما يود أن ينعي إلي الناس عقيدته. لقد ثبتت عقيدته طوال العامين الماضيين امام عواصف الشك التي أرسلها المعري والخيام, حتي هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية, علي أنني لست كافرا, مازلت أؤمن بالله, أما الدين؟ أين الدين؟ ذهب, كما ذهبت رأس الحسين, وكما ذهبت ثقتي بنفسي, وحين يطالبه القص بأن يصلح خطأه يردد كمال لنفسه: يا له من رجل طيب.. انه يطمع في ان يحملني علي مهاجمة العلم في سبيل الدفاع عن اسطورة, حقا لقد تعذب كثيرا ولكنه لن يقبل ان يفتح قلبه من جديد للأساطير.. أما عن أمه فقد وعدها في سره بأن يكرس حياته لنشر نور الله.. وسوف يكون في تحرره من الدين أقرب إلي الله مما كان في إيمانه به( أي بالدين) فما الدين الحقيقي إلا العلم.. هكذا يستيقظ من حلم الأساطير ليواجه الحقيقة المجردة.. بذلك تتفتح له السبل المؤدية إلي الله,( انظر التحقيق كاملا في الشوق367 375). ومع ذلك فحين يقترب القارئ من نهاية الثلاثية يجد ان هذا الإيمان الراسخ بالعلم قد تلاشي, يسأله صديقه القبطي رياض قلدس عن موقفه اليوم من الفلسفات التي كان يعرضها في مقالاته بمجلة الفكر, وبخاصة من الفلسفة الماركسية, التي عرضها بحماسة تدعو للريبة, فيجيب كمال: كانت حماسة صادقة ثم لم ألبث أن حركت رأسي مرتابا. فيقول رياض: هناك العلم فلعله نجا من شكك؟ فيجيب كمال: انه دنيا مغلقة حيالنا لا نعرف إلا بعض نتائجها القريبة, ثم اطلعت علي( أقوال) نخبة من العلماء يرتابون في مطابقة الحقيقة العلمية للحقيقة الواقعية, وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال.. فلم ألبث أن حركت رأسي مرتابا. فيضحك محرر مجلة الفكر ويقول: لقد انتقم منك الدين, هجرته جريا وراء الحقائق العليا فعدت صفر اليدين. وقد أرقة هذا الشك وأورثه العذاب والحيرة. وكان يري أن استمساكه بحبل الحياة المضطربة في يديه مناقض لضمير شكه القاتل. ولكن نفسه وسط دوامة كابوس الشك هذا كانت تنازعه دائما إلي النقيضين: وكر الشهوات والتصوف. أي إلي غذاء الجسد وغذاء الروح. وقد استطاع أن يوفر للجسد غذاءه. أما غذاء الروح أو التصوف, فكان كمال يعذه, في تلك المرحلة, ضربا من السلبية والهروب. كمال إذن كمثقف قد تعرض لثلاث تحولات فكرية عميقة تشكل الأسس النظرية تقريبا أو التيمات, التي عالجتها بصورة أكثر نضجا وتفصيلا روايات أولاد حارتنا والسمان والخريف والشحاذ, إذ إن كمال في السكرية قد تحول أولا من شخص مقبل علي الحياة سعيدا بها, إلي شخص مريض بداء الاغتراب, مؤمن بالله فقط, ورافض للدين التقليدي, ثم تحول ثانيا من شخص متحمس للعلم, كدين يربط البشر بالله بأسلوب اصح وأكثر إقناعا, إلي شخص شاك مرتاب في العلم أيضا, لأسباب حقيقية, وإن كان تحمسه وشكه لم يعرضا إلا بصورة إخبارية تقريرية عابرة, كما ظل كمال يعاني, حتي النهاية, أزمة الاغتراب, لكنها لم تعرض هنا بالصورة الفنية الملائمة. وفي غمرة الشك والحيرة هذه, كانت نفسه تنازعه إلي بديل آخر للدين والعلم, وهو التصوف, الذي لم يعرض هنا إلا بصورة تجريدية, خاطفة. فضلا عن أن كمال كمثقف لم يكن مقتنعا به آنئذ. ومن هنا كان اختيار روايات أولاد حارتنا, والسمان والخريف, و الشحاذ, لتصور الأولي فشل تجربة العلم بديلا عن الدين, ولتصور الثانية قضية الاغتراب بالشكل الفني الملائم, ولتقدم الثالثة تجربة التصوف بهذا الشكل أيضا. أما القضية الرابعة والأخيرة فهي قضية لم تعالج في أعمال نجيب محفوظ التي سبقتها ولا التي تلتها. وهي قضية العدميين(nihilsts) أو معتنقي المذهب العدمي, وستتناولهم الرواية الرابعة: ثرثرة فوق النيل. أولاد حارتنا أود أولا أن أصحح خطأ اعتقاد, يقع فيه البعض( وربما من النقاد), وهو أن شخصية الجبلاوي في هذه الرواية ترمز إلي الله سبحانه وتعالي, وهو خطأ ناجم عن عدم التمعن في القراءة, وإلا فكيف يعقل أن يميت عرفة رمز العلم الإله, سبحانه, لو افترضنا فعلا أن الجبلاوي يرمز إليه, ثم يعزم عرفة, بعد موت الجبلاوي, أن يستخدم سحره لاعادة الجبلاوي إلي الحياة؟! فأي إله هذا, الذي يستطيع عرفة أن يحييه وأن يميته كما يشاء, مع العلم بأن عرفة نفسه يقتل في الرواية؟! إن المسألة لا تخرج عن أن الرواية كما أسلفنا تطبق هنا بأسلوب الأمثولة أو السرد الرمزي الشفاف ما سبق أن حدث لكمال عبدالجواد في الثلاثية, علي نحو تجريدي مباشر. فقد كان كمال مؤمنا راسخ الايمان بالعلم, باعتباره بديلا للدين التقليدي,ثم تبين له خطأ هذه الرؤية, كما مر بنا, وهنا يرفض عرفة أيضا الدين التقليدي, ويعتقد أن سحره بديلا أصح وأكثر إقناعا من الدين الذي يمارسه سواد الناس, ثم تتكشف له سلبيات العلم فيحاول أن يحيي, أو يصلح, هذا الدين مرة أخري بعد أن وجد أن الفتوات, أو( الزعماء) قد استخدموا سحره وسيلة قمع وشر أشرس وأشد فتكا بالناس من وسائلهم السابقة فيسارع القنوات بقتله. لكن تلميذه سحنش يلتقط كراسته. وويقال إنه بعد العدة للزحف علي الحارة أي أن هناك املا( باهتا) في أن يستقيم للعلم طريق الإصلاح الديني. ولعل هذا التفسير الواضح, لكل من يقرأ الرواية بتمعن, أن يسود ويشيع, خدمة للحقيقة من جهة, وحتي تبرأ ساحة هذا الأديب العظيم من تهم التكفير, التي تنهال عليه من كل من هب ودب من القراء المتسرعين, من جهة أخري. أما الهدف الرئيسي للرواية فهو تقديم صورة موضوعية لما حدث تاريخيا للديانات السماوية, ولأثر العلم ومكتشفاته في تقلص نفوذ الدين, ففي البداية كان البشر متدينين,وكان الدين يقدم تفسيرا لكل شيء ويقتنع الناس به. ثم ظهر العلم ومكتشفاته وأديا في عالم الواقع إلي انبهار المجتمعات بهذا الوافد الجديد الذي اشتد تحمسهم له, ثم تبين لهم أنهم كانوا واهمين في تعليق آمالهم عليه في إسعاد البشرية, وفي تقديم الدين بمنهج صحيح علميا. فإذا به يستحيل في أيدي الفتوات( أو الزعماء) إلي وسائل قمع أو دمار أشد فتكا وأشرس من وسائلهم السابقة! وهو ما حدث في الواقع.