ظل الإسلاميون السودانيون منذ نشأتهم الأولي, يتجنبون إطلاق تسمية الإخوان المسلمين عليهم صراحة. ويري البعض أن الاسم ألصقه الشيوعيون بهم, قاصدين ربطهم بالصعوبات والملاحقات التي كان يتعرض لها اخوان مصر. لذلك أخذ أول تنظيم اسلامي حديث( غير طائفي) اسم حركة التحرير الاسلامي ثم الجماعة الإسلامية. رغم وجود تيار صغير, كان يصر باستمرار علي اسم( الإخوان المسلمين), وحتي اليوم يوجد تنظيم صغير بقيادة صادق عبدالله عبدالماجد, والذي درس في مصر نهاية أربعينيات القرن الماضي. لكن أغلبية الإسلاميين انحازت لتيار الشيخ( حسن الترابي) الذي برز منذ منتصف الستينيات عقب عودته من باريس. واختار اسم( جبهة الميثاق الإسلامي) عنوانا لكيانه الإسلامي.و لاحقا أخذت الحركة الإسلامية اسم( الجبهة القومية الإسلامية) عقب الانتفاضة الشعبية عام1985, وحتي استيلائهم علي السلطة في.1989 وغادرت بعض القيادات التاريخية التنظيم احتجاجا علي هيمنة( الترابي) الفكرية والتنظيمية التي بدأت مبكرا. ظل( الترابي) علي خلاف دائم مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين, ويعود ذلك لطموحه الشخصي, وأن قدراته تمكنه من قيادة التنظيم. وكان يشجعه علي ذلك بعض الإسلاميين العرب. من هنا جاءته فكرة تأسيس( المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي) في أبريل1990 عقب حرب الخليج. فقد كان يتوق دائما لتكوين أممية إسلامية سنية وكانت عقدة العالمية مستحكمة داخل الحركة الإسلامية السودانية. ويعود ذلك للشعور بهامشية الجغرافيا والموقع. يضاف الي ذلك الإحساس لدي المثقفين السودانيين, بمختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية, أن بقية العرب لا يعطونهم المكانة التي يستحقونها. ولابد من معرفة هذه الخلفية التاريخية والنفسية لإدراك الزخم العالمي الذي اهتم به الإسلامويون السودانيون في إخراج مؤتمرهم الثامن في الفترة من15-17 نوفمبر الجاري, متجاهلين الأزمات الداخلية الخانقة, وصارفين ببذخ- مليار جنيه سوداني- علي120 ضيفا قادمين من الخارج. فما هي الجدوي السياسية لهذا العمل؟ حاول النظام السوداني ترحيل أزماته للخارج بتقديم نفسه كنظام وطني, مقاوم وممانع علي الطريقة الأسدية. بالتالي فهو يتعرض للضغوط الدولية والمؤامرات الخارجية. وهذا يعني عدم وجود مشاكل وصعوبات داخلية, ولم يهتم بالعيوب التي لازمت المؤتمر بالداخل. وكان يهمه كيف يكسب تأييد ودعم الحركة الإسلامية العالمية. وهذا ما تحقق له, فالشيخ راشد الغنوشي الذي كان ناقدا حادا للتجربة الإسلامية قبل الانتخابات التونسية, تراجع عن كل مواقفه, ليخاطب المؤتمرين, بأن السودان كان الأول في دعمهم ولايزال يدعم قضايا الأمة الإسلامية. وأن تمكين الإسلام في المنطقة انطلق من السودان رغم تآمر الغرب عليه وتسببه في انفصال الجنوب. ورأي أن أرض الإسلام الآن في تمدد.. وتكرر المدح والدعم من قبل كل الإسلاميين العرب الذين كانوا قبل وصولهم للسلطة, يتبرأون من التجربة ويحتجون علي أي محاولة لنسبهم للنموذج السوداني. فقد كان لهم دافع آخر, فهم يريدون أن تكون الخرطوم منصة لإطلاق أفكار ومواقف لا يريدون الالتزام من داخل بلادهم بعد أن أصبحوا حكاما مسئولين. جاء المؤتمر الثامن صادما للسودانيين, فقد كان أول مؤتمر بعد انتفاضات الربيع العربي وبعد انفصال جنوب السودان, توقعوا أن يكون أكثر جدية وإيجابية في مساعدة السودانيين للخروج من مشاكلهم الداخلية أولا ليكونوا بعد ذلك قادرين علي الدفاع عن الأمة الإسلامية. وهم شبعي وأصحاء ومتعلمون. ويعتقد كثير من السودانيين أن الحركة الإسلامية لا وجود لها إلا في خيال بعض الحاكمين. فمن المفارقات, أن نفس الذين نظموا هذا المؤتمر, هم الذين حلوا الحركة الإسلامية بعد المفاصلة مع( الترابي) بقصد سحب تأييد الكيان له. لكن الغريب أن الجناحين لم ينتسبا في الاسم للحركة الإسلامية. فقد صارا, المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي. ويقول أنصاره إن الحركة الإسلامية تيار عام وإن أصر المؤتمر الوطني علي احتكارها, وذلك لا يصح لأي شخص أو جهة. وان الحركة الاسلامية لايمكن تسجيلها وإجراء التدابير القانونية كجسم معترف به لممارسة النشاط السياسي.وهنا يواجه الإسلاميون ليس المعضلة القانونية, لكن إشكالية تحديد هوية الحركة الإسلامية أصلا؟ ومن الذي يحق له هذه الصفة وما الذي يميزه عن الآخرين؟ فهناك تداخل معقد بين مكونات الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني والحكومة. ويسميها البعض الحاءات الثلاثة, وقد كرس المؤتمر تداخلها بقصد منع استقلالية الحركة الإسلامية وأن تكون رقيبا. غابت العملية الديمقراطية تماما عن تسيير أعمال المؤتمر, رغم أنه حشد حوالي4 آلاف عضو, لكنهم حرموا من حق اختيار الأمين العام مباشرة, فقد أحس القائمون علي الأمر أن العناصر المطالبة بالإصلاح قد تكون أغلبية.لذلك تقرر انتخاب مجلس شوري يقوم بمهمة بانتخاب الأمين العام.وبرر أحد القياديين- صراحة- هذا السلوك السياسي, بأن مثل هذه الأمور يجب ألا تترك للعامة لكي يقرروا فيها. وهنا يبرز سؤال حائر: كيف استطاع المحافظون الفوز بأغلبية مجلس الشوري رغم أن هذه العملية قامت أصلا لتجنب أغلبية الإصلاحيين؟ أي لماذا لم يترجموا أغلبيتهم إلي سيطرة علي مجلس الشوري؟ بالتأكيد كان هناك تلاعب فات علي الإصلاحيين. وانتخب مجلس الشوري, الزبير أحمد الحسن, وهو من التكنوقراطيين وتقلد منصب وزير المالية ومناصب تنفيذية أخري. ولم يعرف له أي نشاط فكري أونظري في الكتابة والتأليف. وهذا يعني أن الاهتمام مستقبلا لن يكون بالفكر وتطوير الحركة ثقافيا, بل الاكتفاء بالحركية والعمل التنظيمي والحشد. برغم أن تحديات حقيقية تواجه الحركة الإسلامية الآن, وهذا يتطلب قدرا كبيرا من الاجتهاد وتجويد الأفكار. وهذا ما لايستطيع التكنوقراط والحركيون أمثال الزبير القيام به. أكدت الحركة في النهاية أنها غير مهمومة بالشأن الداخلي وتحسين أوضاع المواطنين المعيشية. وهذا لن يخفي الخلافات العميقة التي أثارتها غلبة التيار السلطوي المحافظ علي الإصلاحيين الذين أبدوا تململا وأصدروا المذكرات الاحتجاجية, وطالبوا بمحاربة الفساد والإنحراف. وكان الإصلاحيون يعولون علي هذا المؤتمر وعلي ترشيح غازي صلاح للأمانة. لكنه شخصية مترددة, كما أن نرجسيته تجعله لا يتصور الفشل مطلقا, لذلك يتجنب المعارك, فانسحب. برغم أن مبرره هو أن الأمين العام سيكون محدود الصلاحيات في هذه الظروف. ويري المراقبون أن المؤتمر انتهي مبقيا علي الخلافات بين تيارين, أحدهما يدعو إلي تذويب الحركة في الدولة, والآخر ينادي بإصلاح حال الحركة ومؤسساتها. وسوف تشهد الفترة القادمة مفاصلة جديدة أو انقساما ظاهرا لاستحالة التوفيق بين التيارين, خاصة مع استمرار النظام في الدخول في صدام مع الخارج, هاربا إلي الأمام, متجاهلا أزماته الداخلية. ولن تنقذه شعارات المقاومة والممانعة الزائفة. مدير مركز الدراسات السودانية