لا تستهدف هذه المقالة الاستغراق في قضية كتابة التاريخ منهجيا علي أهميتها التي تتضاءل عندما يتعلق الأمر بإعادة صياغة تاريخ الأمة, حيث لن يكون الاستنفار عندئذ بغية النظر في مسألة من له حق الكتابة, أو كيفية التناول بين الموضوعية والذاتية فضلا عن إعادة الطرح ليصبح خونة الأمس رموزا لبطولة اليوم أو العكس. من ثم فإن ما يعنيني هنا هو ما درجنا عليه في مناهجنا الدراسية من كتابات تتسق وطبيعة التوجهات السياسية علي تباينها. من ذلك مثلا تاريخ محمد علي مؤسس الأسرة العلوية الذي بلغ التطاول عليه بعد ثورة يوليو1952 حدا انسحب بالضرورة لآخر سلالته الملكية, متناسين رؤيته المستقبلية في بناء مصر الحديثة لنعيد له اعتباره بعد قرنين من الزمان في احتفاليات مهيبة اضطلعت بها أكثر من مؤسسة علمية وثقافية. والرئيس محمد نجيب الذي طمست معالم تاريخه في المرحلة الناصرية لتبعث من دهاليز التاريخ علي يد السادات و لتشي ضمنيا بالبعد عن التبعية لمرحلة, و ترسيخا لذاتية حاكمة من نوع جديد. بل إن هذه الأخيرة قد تعاملت مع موقف الفريق الشاذلي منها بخلط غير مستغرب بين الانتماء للوطن والولاء للفرد, لتقترن عودة الرجل لبلاده بعفو سيادي و ليس بحق المواطنة, حتي تحول الأمر أخيرا إلي تكريم استحالت معه الخيانة الملفقة إلي تقدير. رغم تعدد الأمثلة إلا أن بقاءها في ملعب السياسة بعيدا عن مناهج التاريخ الدراسية يحد من تأثيرها علي التكوين الذهني و الوجداني للناشئة و العكس بالعكس, من ذلك ما رمت إليه تداعيات معاهدة السلام من إعادة صياغة العلاقة مع بني إسرائيل في ضوء مفردات الجنوح للسلم في مناهج الدراسة!! و التي كانت أبعد خطرا من ترسيم الحدود أو مناطق نزع السلاح, بحيث مثل إجهاض المحاولة نجاحا لا يقل عن مكتسبات المرحلة. ولعل ما يطرح الآن بين الحين و الآخر تلميحا, و تصريحا, من ضرورة تضمين الكتب الدراسية لتاريخ جماعة( الإخوان المسلمين) و الإعلان مؤخرا عن تدريس تاريخ( حسن البنا) في جميع المراحل التعليمية, بل وإشارة البعض في أكثر من منبر إعلامي إلي أهمية تناول الحرب في أفغانستان بكونها جزءا من تاريخ الجهاد الإسلامي!! ربمابما فيها حادث إغتيال السادات مثالا لا حصرا. وبحكم كون هذا الطرح الأكثر إلحاحا في وقتنا الحاضر, لا سيما إذا ما طرحنا جانبا العبث الدائر حول وثنية الآثار وجدوي بقائها والذي يخرج مؤقتا عن نطاق هذا المقال. فالواقع الذي لا مراء فيه أن إقصاء جماعة الإخوان المسلمين من مفردات المناهج الدراسية لتاريخنا المعاصر كان ضربا من ضروب تزييف الوعي بالتاريخ من منطلق كونها أحد اللاعبين الرئيسيين علي الساحة منذ عام1928 وحتي الآن, و هو ما يشي بأهمية دورها الذي دفع عددا من الباحثين العرب والأجانب إلي إصدار العديد من الدراسات بشأنها. يبقي فقط أسلوب الكتابة الذي لو خرج عن إطار الرصد التقريري لربما وقع في مغبة البعد عن حيادية التناول و من ثم موضوعية التقييم, و الأخطر من ذلك سلوك درب السابقين دون استيعاب لدروس الماضي في هذا الصدد. و ينسحب الأمر بالتبعية علي الطرح الخاص بالأستاذ( حسن البنا) لا سيما أن الأمر يرتبط بالتقييم التاريخي للشخوص المؤثرة وفقا لطبيعة كل مرحلة. و لا يخفي علي أحد ذلك المد التأثيري لفكر البنا الذي خرجت من رحمه جماعات( إخوان) خارج حدود الوطن, وهذا الأمر في ذاته قد يمثل سلاحا بحدي التهويل و التهوين و بما قد لا يضع الرجل في موضعه الصحيح. أما ما يرتبط بقضية القتال في أفغانستان و حمله علي سلسلة الجهاد الإسلامي لقوي البغي و الشرك!! فالأمر جد يحتاج إلي مراجعة في ضوء التعريف الإصطلاحي لمفاهيم الجهاد و كذا الاغتيال والإرهاب. إن ما تم سوقه هو محصلة لبعض أطروحات آنية تخلط بين السياسة والتاريخ مستفيدة من الوضع الراهن غاضة الطرف عن قيمة المصدر التاريخي و منهج التناول و المدة المفترضة لضمان موضوعيته, مما يجعلنا ندق ناقوس الخطر مخافة وجود أجيال مشوهة من هذا النتاج بما من شأنه إحداث حالة من التشويش الذهني وانعكاسه علي الإنتماء الوطني. ولن ترحمنا أجيال المستقبل إذا وجدت نفسها ممزقة الهوية أو مفتقدة البوصلة الوطنية, حيث لا مرسي ولا دفة ولا ربان. ألا هل بلغت.. المزيد من مقالات د. حسن السعدي