هل يمكن أن نضيف شيئا؟... ديمقراطية, عسكرتارية, أوتوقراطية, بيروقرطية, ديكتاتورية, ثيوقراطية, ليبرالية... الشرق الأوسط جرب كل شيئ, أو تم تجريب كل شيئ فيه, لقرون هو مفعول به, لم يكن أبدا فاعلا, غاب عنه الفعل, واستمر البقاء في خانة المفعول به, الضحية, الشاكي, الحزين الباكي... هل يمكن لهذا الجيل الذي شاب وشابت أفكاره أن يضيف جديدا؟.. هل يسمح الزهايمر لتلك العقول المخصية أن تضيف خصوبة أو تنجب أفكارا؟.. يجوز.. نعم يمكن, إذا شاب الغراب وباض الديك, وتغير الشرق الأوسط أو انقلب رأسا علي عقب... غناء صار غثاء, أدب صار قلة أدب, وزمن الباشوات الجدد يضيف تقاليده وأخلاقياته التي لا أجد وصفا لها, أو بالأحري وصفا يليق بهم وبزمنهم ولا يخدش الحياء العام.. أتذكر قصيدة لنجيب سرور كان عنوانها أولاد...!, وأترك للقارئ البحث عن هذه القصيدة كي يعرف عنوان الزمن الذي أعنيه.. الحب العذري صار من الكائنات المهددة بالإنقراض أو انقرضت بالفعل.. أين ثومة وهي تغرد بأجمل الكلمات, وأعذب الألحان؟.. أين حليم وهو يتسلل إلي أمسياتنا ببهجة الحب ولوعة الفراق؟.. أين المعاني؟.. لقد سبق وكتبت في مقال:لقد أنتحرت المعاني, ولم أفهم بالضبط ما الذي أعنيه, أو ربما نسيت بسبب الزهايمر الذي عشعش في الرأس والذاكرة.. ليت الناس تتعلم من الأفيال؟!.. عندما يشيخ فيل, فأنه يعتزل القطيع, ويتخذ مكانا قصيا ومعه أقرانه من شيوخ الأفيال, يدركون بالفطرة أنه لم يعد لهم نفع, بل أصبحوا عبئا علي باقي القطيع, حركتهم ثقيلة, وأبصارهم كليلة, وأسماعهم عليلة.. يعتزلون في شمم وكبرياء قبل أن يدوسهم باقي القطيع, ويموتون بكرامة وإباء... سنة الحياة هي التغير, وشرقنا العزيز يري رأيا مخالفا, فهو يري أن التغير مخاطرة غير مأمونة العواقب, واللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش, ولذا فإن نظرة لأسطح منازل القاهرة مثلا, ثريها وفقيرها, تعطي مثالا واضحا لما أقول, فالأسطح مكتظة بأشياء لا فائدة لها, مجرد كراكيب, بقايا أثاث محطم, زجاجات مختلفة الأشكال والألوان, سلال, جرائد قديمة, والكثير من القاذورات... كراكيب نحتفظ بها رغم ثقتنا في إنعدام جدواها, ولكن.. من يدري؟, فلعل هناك فائدة في هذه الزجاجة المكسورة, أو في هذه المرآة التي لم تعد تعكس شيئا سوي الصدأ... كراكيب ذات رائحة كريهة, ومع ذلك فأن الناس تصعد إلي الأسطح في ليالي الصيف كي تشم هواءها الملوث... نحتاج جيلا جديدا يعتبر العلم أكثر من مجرد درجة اجتماعية أو وظيفية, وإنما أسلوب ومنهج لتغيير الحياة, نريد جيلا جديدا يرفض الخنوع لإملاءات الواقع, ينقذنا من تبلدنا, وأوهامنا التي اختطفت أعمارنا جيلا بعد جيل, ومن دروشة حملة المباخر الذين سرقوا منا أحلامنا وأيامنا ومستقبلنا... نحتاج جيلا لا يساوم في الحق, لا يتراجع عن مواجهة التحديات, يشطب سيرة الهوان, سيرتنا, ويرفض حكمتنا.. حكمة العجز... كتبت مئات المقالات تحت عنوان: كلام في السياسة خلال الأعوام العشرين الماضية.. أشعر الآن أن كل ما كتبته لم يكن سوي إسطوانة مشروخة, تعيد وتكرر نفس النغمة البائسة, تحاول أن تقترب زاحفة فوق السطور إلي صيغة الخلاص, لكنها مجرد كلمات.. كلمات ميتة فوق صفحات مظلمة لا تجد نورا ولا تشعل نارا.. بعد كل هذا العمر, ماذا تبقي؟ ربما هي نعمة مستترة.. الزهايمر أيضا يخفي زمنا من الهوان والإنكسار, لحظة النكسة حين انفطر القلب الصبي علي حقيقة الهزيمة, وحين رفرف العلم ذو النجمة السداسية الزرقاء أمام عيوننا علي الشاطئ الآخر, بل وحين انغرس في قلوبنا حزنا وذلا مقيما.. أختفت أيضا تلك الأحلام الملونة, وتلاشت الآمال.. هي نعمة بلا جدال أن يصبح الإنسان جمادا بلا تاريخ أو مستقبل, مجرد حجر علي طريق تدوسه الأقدام... حالة مخيفة من الزهايمر مسحت العقل كله, ولم يتبق سوي الغرائز الحيوانية البهيمية, شاخ العقل أو تجمد أو مات, أصبحنا أمة تنتحر... الرهان الكبير هو الشباب, تلك الأجيال الطالعة التي لم تمر بنكسة أو بانكسار, المسلحة بالعلم والحماس والقدرة علي الحلم, أجيال لا ترتعش أصابعها فوق الزناد, ولا تهتز عقولها أمام التحديات.. هذا هو الرهان الذي قد لا نري نتيجته فيما تبقي من أعمارنا, ولكنني متيقن أنه الرهان الرابح, هذا هو القدر المؤكد من اليقين الذي لم تصل إليه بعد خيوط عنكبوت الزهايمر... ومثل أي فيل كهل محترم, أظن أن الوقت قد حان لاتخاذ مكان قصي, كي أرفع العبء عن الجيل الجديد, وربما يكون من المسلي والمفيد أن أجد في هذا المكان المنعزل بعض رفاق الطريق كي نتشاغل في مباراة الذاكرة, فنحاول معا أن نتذكر ماذا أفطرنا اليوم, وما هي أسماء أولادنا وأعمارهم.. نعصر الذهن سويا كي نستعيد بعض الصور الباهتة لأيامنا السعيدة, ونتبادل التفاخر بانتصارات لم يعد يتذكرها أحد... مثل أي فيل كهل محترم يجب أن يضاف إلي الكراكيب في منطقة مخصصة لذلك, وليس علي قمة أسطح المجتمع... المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق