أثناء دراستي للدكتوراه منذ ثلاثين عاما في الولاياتالمتحدة, وقعت كارثتان: مجزرة حماة الكبري في فبراير1982, والغزو الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت والمخيمات الفلسطينية في يونيو.1982 وبينما كنا نشاهد بثا مباشرا لوقائع الغزو والحصار والقصف, لم تتضح تفاصيل أحداث حماة إلا بعدها بشهور. وكان نظام حافظ الأسد قد قرر, أنه من أجل إخماد المعارضة الإسلامية لحكمه, لابد من تلقين السوريين درسا لا ينسوه.. وأوعز لأخيه السفاح رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع بهذه المهمة, وارتكبت سرايا الدفاع سلسلة مجازر1980 1982, كانت نهايتها في حماة. حوصرت المدينة واستبيحت علي مدي شهر كامل, قتل خلاله ما يقرب من35 ألف إنسان, قصفا وذبحا وبقرا لبطون الحوامل, فضلا عن حالات لا تحصي من فقء العيون والاغتصاب. وصلت وحشية نظام الأسد إلي درجة تقزمت بجانبها وحشية الإسرائيليين وحلفائهم في لبنان. ثم يدور الزمن ويثبت بشار أن هذا الشبل من ذاك الاسد.. وأن وجود الانترنت والمحمول لم يكن له أدني تأثير علي القسوة والوحشية. ولكن يبقي السؤال: لماذا تحالفت ثورة عظيمة في إيران, وتورطت مقاومة نبيلة في لبنان, مع أشد الأنظمة العربية إجراما ودناءة ووحشية ؟ كانت إحدي أهم النتائج المباشرة لغزو لبنان هي ظهور أفواج المقاومة اللبنانية( أمل), التي إنطلقت عملياتها في الجنوب اللبناني بعد أسابيع قليلة من الغزو, وتشكلت أغلبيتها الكاسحة من شيعة أهل الجنوب. وكان من أهم عمليات المقاومة, تفجير مقر الحاكم الإسرائيلي في صور, ومبني السفارة الأمريكية في بيروت, ومبني المارينز الذي قتل فيه أكثر من مائتي جندي أمريكي, وأدي إلي إنسحاب الأمريكيين من لبنان. ولكن ما لبثت المقاومة أن انشقت إلي تيارين.. علماني تمثله( حركة أمل) وإسلامي يمثله( حزب الله). ومع مرور الوقت, أصبح( حزب الله) يتولي بمفرده عمليات المقاومة, وترك أمور السياسية إلي( حركة أمل) لتأمين حقوق الطائفة الشيعية في لبنان, والتي كانت في الماضي أكثر الطوائف عرضة للاضطهاد والتهميش. ولم يسعي( حزب الله) إلي الانخراط في العملية السياسية إلا بعد إغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في فبراير.2005 بعد مجزرة صابرا وشاتيلا, وفضيحة تورط آرييل شارون فيها, وتصاعد عمليات المقاومة ضد قواتها, إضطرت إسرائيل إلي الانسحاب إلي شريط حدودي في الجنوب, بعد أن أنشأت فيه قوة عسكرية موالية لها أسمتها جيش لبنان الجنوبي. ومن أجل أن تستمر عمليات( حزب الله) ضد الإسرائيليين وجيشهم العميل, كان لابد من استمرار تدفق السلاح الإيراني إلي المقاومة, حيث لم تبادر أي دولة عربية بتقديم أي عون إليها. في الوقت نفسه, كان حافظ الأسد قد انتهي من تقديم دروسه في الوحشية. ولأن خوفه من الشعب أكبر من خوفه من إسرائيل, لم يسمح بانطلاق أية مقاومة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجولان, خوفا من انقلاب هذه المقاومة عليه لاحقا. وبالتالي فضل أن يستمر الاحتلال علي أن يتعرض نظامه لعقاب إسرائيلي أو تهديد محتمل من حركة مقاومة مسلحة. وكان الوضع الأكثر أمانا له هو الضغط علي إسرائيل واستنزافها بطريق غير مباشر, ووجد الفرصة لتحقيق ذلك عن طريق( حزب الله). تلاقت إذن المصالح.. مصلحة مشروعه من جانب إيران و(حزب الله) لتحرير الجنوب اللبناني, ومصلحة انتهازية من جانب الأسد لمضايقة إسرائيل. ولم يكن أمام المقاومة سوي التعاون مع نظام الأسد لأنه النظام العربي الوحيد الذي قدم لها العون وسمح بتمرير السلاح الايراني إليها. الحقائق المجردة إذن تقول أنه لولا نظام حافظ الأسد ومن بعده بشار, ما تمكن( حزب الله) من تحرير الجنوب عام2000, ولما تمكن من تحقيق نصره المذهل في حرب صيف2006, ولما تمكن من الانتصار في موقعة الأسري عام2008, وكلها إنتصارات ألحقت بإسرائيل قدرا غير مسبوق من الذل والإهانة وأثلجت صدور العرب والمسلمين وشفت غيظ قلوبهم في شتي أنحاء العالم. إن ما يمر به( حزب الله) مع الثورة السورية, هو في تقديري أكبر ابتلاء للمقاومة منذ إنشائها.. إبتلاء أكبر من حروبها مع إسرائيل, لأنه يتعلق بالقيم الإسلامية والمبادئ الإنسانية, ويضع الحزب في معضلة كبيرة.. فالوقوف مع حق الشعب السوري في التحرر من نظامه المجرم, كما كان موقف الحزب إزاء الثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية, يعني انقلابا علي حليفه العربي الوحيد, الذي لم يتأخر عن دعمه وتأييده علي مدي ثلاثة عقود, ويعتبر عضا لليد التي ساندته في أحلك الأوقات. إن وضع( حزب الله) بين سوريا واسرائيل, هو كوضع المجاهدين الأفغان منذ ثلاثين عاما بين امريكا والاتحاد السوفيتي. استغل نظام الأسد( حزب الله) لاستنزاف إسرائيل, كما استغلت أمريكا المجاهدين لإستنزاف وإنهاك السوفييت. ونجح الاستغلال في الحالتين في تحقيق هزيمة مهينة للقوتين المحتلتين. وكما لجأ الأمريكيون في دعمهم للأفغان, إلي الضرب علي وتر المبادئ وحقوق الانسان, ضرب نظام الأسد( الأب والإبن) علي وتر المقاومة والممانعة. الفارق بين الحالتين يكمن في وحدة وتجانس( حزب الله) وحكمة ودهاء قيادته, مقارنة بتشتت وتنافر منظمات المجاهدين, وسذاجة وغباء قياداتهم. وتتفاقم خطورة ما يجري عندما نري سيناريو البوسنه يتكرر في سوريا, حيث يتعمد الأمريكيون وحلفاؤهم تنقيط الجيش السوري الحر بالسلاح, كما فعلوا مع مسلمي البوسنه(1992 1995), حتي لا يتمكن من تحقيق إنتصار سريع علي نظام الأسد, ويستمر إنهاك واستنزاف الطرفين. وفي الوقت المناسب, بعد أن يري الأمريكيون أن الطبخة إستوت, وأن الثوار السوريين وصل بهم التعب والإنهاك إلي الدرجة المناسبة, سيتقدمون باتفاق يمكنهم من فرض نظام موال لهم, تماما كما إنتهي الأمر في البوسنه مع إتفاق دايتون المشين. الأزمة السورية إذن مرهونة بحل معضلة( حزب الله), ومواجهة سيناريو البوسنه. وفي تقديري, فإنه لا مفر من عودة مصر بقوة لملأ الفراغ الذي تركته في لبنان منذ عقود, من أجل التأثير المباشر في الأزمة وانتزاع زمام المبادرة واحتكار الحل من الأمريكيين. والحل ببساطة يكمن في تليين مواقف إيران و(حزب الله).. فالأزمة السورية بالنسبة لهما هي قضية وجود. نحن في حاجة من ناحية, إلي طمأنة( حزب الله) أن مصر, بعد رحيل الأسد, لن تترك المقاومة فريسة لخصومها في الداخل, جماعة(14 آذار), ولن تسمح بذلك.. ومن ناحية أخري إلي طمأنة إيران أن مصر لن تتركها وحيدة في المنطقة أمام أعدائها بعد سقوط حليفها العربي الوحيد. المزيد من مقالات صلاح عز