أنا أعتبر شدو فيروز.. هذه القيثارة المحلقة في سماء الكون اعتذارا عن بعض مظاهر القبح والركاكة في الحياة, وتشدو الفيروزة أنا عندي حنين ما بعرف لمين لكن الحنين يموج في صدري واعرف لمين! وليس بالضرورة أن يشرئب الحنين لشخص أو أشخاص بعينهم, ولكن ربما كان الحنين لمعان غابت أو قيم ذابت, وليس بالضرورة أيضا البكاء علي أطلال الماضي من بوابة الحنين له, ولكن بعض الماضي يظل, كالذهب له بريقه الذي لا يذهب. عندي حنين لجدية الألمان, وعلمانية الأتراك, ومعزوفة النمل البشري الصيني, وإصرار النمور الآسيوية, ونظافة سنغافورة! الشعوب تصنع التقدم, والأيدي والسواعد والعقول تصنع الحضارة, والشعوب المغطاة بانظمتها عرايا, لأن الشعوب فعل ماض ومضارع, والشعب الكسول لا محل له من الإعراب, وفي عالمنا العربي نتكلم عن الشيء أكثر مما نفعله, وعندي حنين أن نكف عن الكلام عن التعليم, ونضع تعليما يسري في الوجدان, ولا ننشغل بأخبار مثيرة هي.. دون الخوض فيها من توابع الوهن الذي أصاب التربية, فجاء التلميذ المنفلت والمدرس اللامبالي, والناظر النايم علي ودانه!. عندي حنين لناخب من طراز جديد يعطي صوته الغالي عليه لمن يستحق برلمانا لا يعيش في مدينة نعم بايماءة أو زغرة عين بلدنا تستحق برلمانا فيه العامل عامل والفلاح فلاح حقا والمثقف مثقف بالفعل, برلمان بلا أقنعة, ولا ثياب آخرين مؤجرة حتي ينتهي العرض! عندي حنين لخروج المنسحبين من خنادقهم للمشاركة في صنع غد الأبناء والاحفاد, بقاء هؤلاء المنسحبين من المجتمع في الظل, جريمة معنوية, فمصر ليست احتكارا لنظام, ولا ملكا لحفنة أثرياء, ولا حراكا لنخبة تدمن الصخب, مصر تستحق انتصارات بحجم كينونتها, وتأثيرها, عندي حنين لنبذ التعصب في مصر بكل صوره, التعصب الطائفي, والتعصب الكروي, والتعصب الإقليمي, والتعصب المهني, إن نار التعصب مدمرة, تكفي شراره, فيولع الحطب. مصر تستحق إعلاما رياضيا متوازنا لا تتحول استديوهات التحليل فيه إلي غرف عمليات معارك, وأتوقع أن يقدم المشجعون برامج رياضية كروية, وربما يطل الحظ بواب الأهلي أو الزمالك أو موظف أمن انبي! عندي حنين لتشييد قيمة الحرفية في المجتمع بدءا من الوزير إلي مذيع التليفزيون بعض وزرائنا ليسوا حرفيين, وقلة قليلة من مذيعينا حرفيون, الحرفية هي الإجادة, والفهم والذكاء والكاريزما, وبعض وزرائنا, يفهم وكلاء الوزارة أكثر منهم, ولكن قل إن الحظ شاء! وبعض مذيعينا أخرجوا ألسنتهم لدارسي ودارسات الإعلام في الكليات والاكاديميات, فالتخطيط معدوم, ونصنع طوابير بطالة ثم نندب حظنا الهباب, هناك شخصيات عامة محترفة, كيوسف بطرس مهما نالته السهام الطائشة, وأحمد شفيق لأنه بخلفية عسكرية, ويملك رؤيه. وعندنا مدن كالإسكندرية وشرم الشيخ نموذج للنظافة والتخطيط العصري, وعندنا الاقصر في صعيد مصر تستحق رتبة المحافظة, معني هذا أن هناك وزيرا محترفا, ومحافظا محترفا, وهناك مدنا في مستوي سمعتها لأن وراءها رؤية, ومتابعة وعينا ساهرة بإخلاص. عندي حنين لرئيس وزراء لمصر يوما ما اسمه د. فؤاد محيي الدين, ولست أدري لماذا تذكرته عندما قرأت أن رئيس الوزراء التركي كلف وزراءه المختصين باحتواء أزمة اللحوم, وإعادة أسعارها إلي المعدل الطبيعي, واعطاهم بحزم مهلة يومين! وفي مصر, الحزم سلعة مضروبة, في العالم المتقدم يأتي الوزير من الحزب الحاكم أو المعارضة بعد أن يكون قد داس الشارع, أي فهم أبجدياته, والتعامل معه. عندي حنين لنوعية جديدة تستحقها مصر من الوزراء الشغيلة يرفعون عن كاهل رئيس الدولة أعباء الملاحقة والمتابعة, حيث يملك خاصية غريبة, وهي ان عينيه تقعان علي الخطأ بسهولة, عندي حنين لوزراء يملكون النموذج المصري في التفكير دون الانصياع الأعلي للتوجيهات, عندي حنين لدولة ذكية تدار بالعلم, وليس مجرد قرية ذكية, دولة ينفق فيها علي الأبحاث العلمية نصف ما ينفق في إسرائيل. إن الإدارة بالمعرفة هي الأمل, وهي الوسيلة للتنبؤ بالمشكلات, وهي فريضة غائبة في حياتنا مازلنا مظهريين عندي حنين لتفعيل مناقشات عقول المجالس القومية الثرية للتفكير المستقبلي, وللأسف ينظر إليه الجهاز التنفيذي نظرة بلهاء تعكس عدم الترحيب بالجهد المحترم. عندي حنين لهزات مجتمعية تشل اليأس, وتقلص الإحباط, وتعيد للناس شيئا من الاهتمام بدلا من الاستسلام المطلق لدكاكين الفضائيات الليلية التي تدير المجتمع وتوجه اهتماماته وتؤثر عليه سلبا حين تصل الرغبة في الشعبية إلي حد اللطم والصراخ واعتلاء منصة القاضي ولملمة الموضوعات بمداخلات رسمية للتسكين! عندي حنين لإطلاق العقل المصري من خموله أو قبوله المسلمات, واستخدامه الأمثل للزمن والجهد, يقول د. محمد رءوف حامد إن عيبا جوهريا في تفكيرنا اسمه فترة التلكؤ وهي أحد العوامل الرئيسية المسئولة عن الفجوة التنموية بيننا, وبين شعوب أخري, حيث كلما اقترب التلكؤ من الصفر صعد الأداء الابداعي الابتكاري, وتسارع الاستنهاض, كيف نصل بالتلكؤ إلي درجة الصفر؟ إنها مهمة مجتمع يقف ضد التلكؤ عملا وفكرا. عندي حنين أن يتوقف المجتمع المصري لحظات من عمر الزمن ليسأل نفسه هل نستحق أن نكون أولادا وبناتا لمصر؟ هل نجيد غربلة ما نسمع ونري ونقرأ؟ هل نعرف كيف نفرز العاشق لتراب البلد من بين النصابين, ومدعي الشرف والمتاجرين باسم مصر؟ وفي النهاية لست يتوبيا ولا نصف مثالي, إنما أدرك أن الوطن ليس ماتش كورة نكسبه, ولا نشيد حماس نغنيه, فهو جهد وعرق, وعلم وتنبؤ, وعدم تلكؤ وحرفية, وإذ اكتشفتم أني أهذي, فصارحوني وقولوا لي: كف عن الهذيان!