في مقال بعنوان( طوبي للغرباء) كتب الدكتور طارق السهري وكيل مجلس الشوري قائلا: (إن الجاهلية ليست حقبة تاريخية حدثت وانتهت, بل هي تصورات ومعتقدات وظنون وعصبية وتبرج وتشريع العباد للعباد, واعتراض علي شريعة الله, والتماس المدد من المخلوقين, والاستعانة من المقبورين, ودعاء الأولياء والصالحين). هذه العبارات تحتوي علي قضايا بالغة الأهمية يمكن مناقشتها بإجمال شديد فيما يلي: أولا:إن الفحوي العام لهذه العبارات قبل الدخول في تفاصيلها يحوي بين حقبة الجاهلية الأولي كما وصفها القرآن الكريم التي عاصرت الإسلام في سنواته الباكرة ثم انتهت بفتح مكة, والتي هي أعني تلك الجاهلية الكفر بعينه من جهة, وبين الأفعال التي تمت إلي الجاهلية بسبب, والتي حدثت بعد هذا الفتح المبين, والتي أشار إليها القرآن الكريم في آيات أربع, من جهة أخري. بيد أن الكاتب الكريم قد ذهب إلي التسوية بين هذه الأفعال التي توصف بالجاهلية( من وجهة نظره الخاصة طبعا)وبين الجاهلية الأولي, لأن الجاهلية عنده كما يقول ( ليست حقبة تاريخية حدثت وانتهت, بل هي ممتدة مستمرة) ناسيا أن لفظة الجاهلية التي وردت بالقرآن الكريم أربع مرات تتعلق إحداها بأمهات المؤمنين اللائي يتوجه إليهن الخطاب القرآني ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي!! فلو أنا أخذنا بهذا الفهم الذي وصل إلي تلك التسوية, في غفلة عن التفرقة الضرورية بين الجاهلية الأولي التي هي ضد الإيمان, وبين التصرفات الجاهلية التي تجتمع مع الإيمان: فمدلول ذلك بمعني ما من المعاني أن مجتمعاتنا لا تزال بحاجة إلي إسلام جديد, وإلي إيمان مستأنف, لأننا بمقتضي هذا الفهم لا نزال في مرحلة الجاهلية الأولي الممتدة الصراح البواح والتي هي ضد الإيمان!!! ثانيا: ثم إن هذه الأفعال والتصرفات التي ذكرها الكاتب الكريم مفصلة, والتي أرادإدماجها في الجاهلية الأولي في حاجة إلي نقاش أصولي وعقدي وفقهي حاد وعميق, ليتبين فيها وجه الحل من وجه الحرمة, فلا ينبغي أن تؤخذ أمور التكفير والجاهلية بهذا التبسيط المتعجل, لأن توجيه الاتهام إلي من يمارسون هذه الممارسات: بالجاهلية التي هي ضد الإيمان يعني بالضرورة اتهامهم بما يلامس الارتداد عن الملة, وحدث ولا حرج عما يتبع هذا الاتهام من أوخم العواقب علي الفرد والجماعة, وما أكثر ما اشتعلت في سبيل ذلك حروب, وسفكت دماء, وقطعت أوصال, ثم اكتشف من باء بإثمها أنه كان أمره فرطا, بعد أن أزهق متعمدا: نفسا ليس له: بكفرها من علم إلا اتباع الظن, ولست أدري كيف خاض الخائضون في ذلك... وأهل السنة مجمعون علي عدم التكفير بالذنب إلا بجحدقاطع لا شبهة فيه لأصول الإسلام وأركان الإيمان؟!! ثالثا: ولعل الكاتب الكريم لا يزال علي ذكر مما أصاب الوطن في الستينيات من شيوع فكرة جاهلية المجتمع التي اصطحبت في إهابها قضية( الشرك ونواقض الإيمان في توحيد الألوهية) ثم انزلقتا معا في سياق فكري واحد إلي التكفير الصريح لبعض أمة المسلمين, ثم منه إلي الخروج الجهادي بالسلاح, ثم تبعه ذلك المزاج السوداوي الذي يسود المجتمع الآن, والذي ينضح بالعنف والغلظة والتشدد, والذي يأخذ بعضه بحجز بعض. فليحذر الذين يتناولون قضايا الجاهلية والتكفير مما تؤدي إليه من مخاطر فادحة علي جميع المستويات, وليكن ملاذنا جميعا تلك الآية الكريمة المحكمة ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا. آمل أن لايفسد هذا للود قضية.. هدانا الله جميعا إلي سواء السبيل.