لا اعرف لماذا اختاروا لتجمعهم هذا المكان التاريخي المطل علي جزء ساحر من بحر مرمرة في ضاحية كادي كوي بالشطر الاسيوي من مدينة أسطنبول ففي حرم محطة السكة الحديد. المعنونة بأسم القائد العسكري العثماني القديم' حيدر باشا'(1512 1595) والتي أنشئت قبل ما يزيد علي المائة سنة في عهد' البادشاه' عبد الحميد الثاني(1842 1918) احتشد عشرات من فنانين وكتاب وادباء ومثقفين لإحياء الذكري الخامسة والتسعين للسقوط المروع الذي أودي بحياة الآلاف من ارمن الاناضول, رافعين شعارا مؤثرا كتبت كلماته الثلاث بحروف سوداء علي خلفية بيضاء: المصاب مصابنا جميعا, ومع الجمل التأبينية تناثرت الورود علي صفحات المياه بتموجاتها الخفيفة الساكتة, وكأنها ارادت هي الأخري مشاركة الجمع الغفير البكاء في صمت. وعلي الضفة الأخري الاوروبية المقابلة بالمدينة الكبيرة وفي أشهر ميادنيها تقسيم وبجانب النصب التذكاري كانت المناسبة ذاتها تأخذ نفس طقوس الحزن في ظاهرة لم تألفها الجمهورية الكمالية علي مدار سبعة وثمانين عاما هي كل عمرها, إذ يبدو أن بعضا من أبنائها وعلي اختلاف توجهاتهم قرروا أن يسلكوا طريقا مختلفا في محاولة منهم لفهم تلك المأساة وأبعادها وهل بلادهم خلال حقبتها العثمانية متورطة بالفعل في تلك المجازر ووسط حماية من رجال الأمن توالت صرخات مسكونة بالأسي علي ضحايا الأرمن. وحتي يكتمل المشهد انطلقت من اركان باعة شرائط الموسيقي والتي يزخر بها شارع استقلال نغمات للأرميني الشهير آرام ختشادوريان وصوت عذب يتغني بجمل فرنسية لا تخطئها الاذن إنها للمخضرم الفرنسي الارميني أيضا شارل ازنافور. كان هذا هو الرابع والعشرين من نيسان إبريل الماضي والذي لم يكن مثل الاعوام السابقة كونه حمل رياحا إستثنائية قد تبشر بمرحلة يكون نقد الذات عنوانها والإحتكام إلي الواقع والتاريخ معا مضمونها ومن ثم فالفضاء التركي الأرميني حتي وإن بدا ملبدا بالغيوم الكثيفة إلا أنه ليس عصيا علي حزمة من إشعة الشمس بإختراقه ربما لا يكون اليوم لكن حتما سيحدث في الغد والمسئولون الأرمنييون انفسهم وهم يعلنون عن تجميد العمل ببروتوكولات التطبيع التي وقع عليها الجانبين في إحدي العواصم الاوروبية بالاحرف الاولي في أكتوبر العام الماضي قالوا إنها أي البروتوكولات لن توضع في الادراج كي يطويها النسيان, فهي مازالت علي جدول أعمال برلمانهم ورئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان فقد اعلن بدوره التزام بلاده بما تم الاتفاق عليه مع أرمينيا. ولمزيد من التدليل علي وجود تغير بالمزاج الجمعي هو أنه قبل سنوات انتفض الاتراك ضد أديبهم الشهير' أورهان باموك' لتبنيه الدعوات التي تشير إلي ضلوع الامبراطورية العثمانية في المذابح التي طالت الأرمن إبان الحرب العالمية الأولي وطالبوا بمعاقبته وفقا للقانون الذي يدين من يدعو إلي إثارة الفتن ورفعت دعاوي قضائية عديدة ضده لكنها أنتهت إلي الحفظ وكأن لم يكن! واقعة أخري كان' اردوغان بطلها' ففي خطوة غضب وبنبرة انفعالية نتيجة تصويت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي علي قانون يحمل تركيا العثمانية مسئولية الديباسورا( الإبادة) لمح زعيم حزب العدالة الحاكم إلي أن حكومته قد تضطر إلي طرد ارمنيين من بلاده إلا أن عاصفة عاتية هبت رافضة ومنددة بتلك الاقوال بما دعاه إلي العودة لجادة الصواب ليصرح معتذرا أن ما قاله لشبكة إخبارية إنجليزية أسئ فهمه وترجمته. حتي أن مسالة سحب السفراء كرد فعل سريع( من استكهولم أولا ثم واشنطن ثانيا) لم تعد مجدية وهذا ما قالته الميديا مرئية ومقروءة فشهور وربما أقل كثيرا يمضيها من تم إستدعاؤهم للتشاور في بلادهم لكن سرعان ما يعودون إلي مقار اعمالهم. غير أن هناك من يعطل تحت دعاوي مختلفة فهنا ببقاع الاناضول توجد شرائح مجتمعية لا يمكن التقليل من شأنها وتأثيرها في الحياة السياسية فضلا عن دورها في تشكيل الرأي العام للمواطنين الاتراك تأبي الرضوخ وقبول مزاعم جوفاء أو تحمل وزر جرائم لم يفعلوها ثم ماذا عن أقربائهم الذين نكل بهم قبل قتهلم كالنعاج في المقابل هناك خلف جبال ارارات الشاهقة من يؤمن بأساطير الأولين, حيث سفينة نوح التي باركت في الزمن الغابر أرمينيا الكبري بمساحاتها الشاشعة التي التهمت تركيا جزء كبيرا منها خصوصا ما يعرف الآن باسمVAN أنها جنة عدن الأرمينية ولكنها مع الاسف هكذا يروج القساوسة, وقعت في أيدي الاعداء!! كل هذا معلوم لكن يوجد أيضا من يرفض النزعات الشوفينية المتطرفة مطالبين بتجاوز جراح الماضي والتطلع نحو بناء حاضر يقود إلي سلام واستقرار لن يكون فقط لصالح الشعبيين التركي والأرميني ولكن لمجمل شعوب القوقاز وكل رؤساء الحكومات المتعاقبة علي' الباشباكلنك' في أنقرة كانوا مع فتح الحدود لكنهم في الوقت نفسه رفضوا بشدة الاعتراف بإبادة مليون ونصف المليون أرميني. فلا بأس أذن من الالتقاء في منتصف الطريق وهذا ما يحدث. فقطار المصالحة أنطلق بالفعل منذ أن ذهب الرئيس التركي عبد الله جول إلي العاصمة الارمينية قبل سنة ونصف السنة تقريبا لمشاهدة منتخب بلاده القومي وهو يخوض مباراته الأولي مع نظيره الارميني في تصفيات كأس العالم وبعدها بشهور قليلة حل الرئيس الارميني ضيفا في بورصا عاصمة الخلافة العثمانية للمشاركة في الجولة الثانية من المسابقة نفسها.