في الطائرة فوق المحيط الأطلنطي يوم20 أكتوبر2012 أجلس في مقعدي بالطائرة من مدينة كراكو( في بولندا) إلي مدينة ديترويت في ولاية ميشيجين بأمريكا الشمالية( مرورا بمدينة وارسو وباريس), حوالي خمس عشرة ساعة في الجو, أقرأ فيها صحف العالم, شمالا وجنوبا. أمامي رزمة الجرائد بلغات متعددة, منها العربية والفرنسية والانجليزية والبولندية والألمانية, أرشف القهوة السوداء المرة, مع الأخبار الأكثر مرارة وسوادا القادمة من المنطقة التي يسمونها الشرق الأوسط, منذ الاستعمار البريطاني في القرن19 حتي الاستعمار الأمريكي في القرن21: مصر واليمن وتونس والعراق وسوريا ولبنان وايران وباكستانوأفغانستان وغيرها. وتبدو العناوين الرئيسية متشابهة رغم اختلاف الحروف الأبجدية, تعرفت علي بعض الكلمات البولندية أثناء زيارتي الأخيرة لمدينة كراكو, حيث زرت متحف شيندلر, ومحارق الغاز, في منطقة أوشويدس سيئة السمعة الشهيرة, منذ فيلم المخرج سبيلبرج. قلت للمرشدة البولندية, ونحن داخل محارق الغاز, وأنفاسي تكاد تتقطع من انعدام الأوكسجين, هل تريدون خنقنا هنا في كراكو؟ ضحكت المرشدة البولندية وقالت: ربما هناك محاولة لتصوير بشاعة ما حدث من تعذيب لليهود, لكن الحقيقة يا سيدتي إن ضحايا هتلر والنازية في محارق الغاز, من سنة1939 حتي1945, كانوا بالآلاف, من شعوب43 دولة, داخل أوروبا وخارجها, ونساء وأطفال ورجال غير القادرين علي العمل, من مختلف العقائد والأديان, وليس فقط من اليهود, لكن الاستعمار البريطاني( والأوروبي) تعمد نشر الاشاعة أن اليهود فقط كانوا الضحايا, من أجل تبرير إنشاء دولة اسرائيل في فسلطين عام1948, وهاهي دولة اسرائيل تفعل بالشعب الفلسطيني ما فعله هتلر بهم وأكثر. سألتني المرشدة: هل قرأت الأخبار السيئة الأخيرة ضد النساء في مصر وتونس وطالبان؟ لم يكن عندي الوقت لقراءة شيء الا في اليوم التالي وأنا بالطائرة أقرأ صحف العالم, ماذا يحدث للنساء والبنات باسم الاسلام؟ إطلاق الرصاص علي البنات الصغيرات تحت حكم الطالبان, لمجرد سعيهن الي العلم والمعرفة في المدرسة, والانقضاض علي حقوق النساء التونسيات وكرامتهن تحت الحكم الاسلامي الجديد, حتي تاريخ المرأة التونسية يتم تشويهه. هذه السطور من بيان لتحالف نساء تونس في20 أكتوبر2012, أكدت أن ثورة تونس الشعبية العظيمة سوف تتمخض عن هذا الحكم الذي يهدر حقوق النساء وكرامتهن تحت اسم الإسلام, حتي الرائدات المناضلات يتم تشويه تاريخهن المشرف, منهن السيدة عائشة المنوبية التي ثارت ضد الظلم وضحت بالزواج من أجل العلم, ودعت( مثل رابعة العدوية) الي جوهر الدين وليس الطقوس والقشور, وكانت تحمل الماء وتطفيء به نار جهنم, أو تحمل شعلة تضيء بها الجنة, رمزا الي عمل الخير حبا في الخير وليس طمعا في الجنة أو خوفا من الجحيم, والبنات الصغيرات المقتولات تحت حكم الطالبان, منهن الطفلة مالالا التي صوبوا الرصاص الي رأسها لإصرارها علي التعلم وليس الانحباس داخل جدران البيت, وبنات وفتيات تلميذات, حرقت وجوههن بماء النار, لخروجهن الي المدرسة, أو عدم ارتداء النقاب أو الحجاب. في مصر تعمدت معلمة منتقبة ارهاب تلميذة طفلة, بقص شعرها بالقوة لعدم ارتدائها النقاب. أهذه هي نتيجة الثورة الشعبية المصرية العظيمة التي أطاحت برأس النظام السابق الفاسد؟ هل خرجنا الي الشوارع والميادين منذ25 يناير2011 لإخفاء وجوه البنات أو من أجل تطبيق ما يسمونها أحكام الشريعة؟ نحن خرجنا واهدرت دماؤنا وفقئت عيوننا من أجل الحرية والعدالة والكرامة للجميع نساء ورجالا فقراء وأغنياء!!. حين جاء باراك أوباما الي القاهرة في يونيو2008, قال إن المرأة المصرية حرة في اختيارها الحجاب أو النقاب, أهذه هي الحرية والديمقراطية الأمريكية التي تتبعها الحكومات المصرية منذ السادات حتي اليوم؟ هل تذكرون الأب المصري الذي تعاون مع زوجته في ضرب طفلتهما حتي ماتت لأنها خلعت الحجاب في يوم شديد الحرارة؟ والسؤال الذي يهرب منه الكثيرون: ماهي القوي السياسية والاقتصادية الخارجية والداخلية التي مولت وشجعت ودربت علي السلاح هذه التيارات السياسية الإسلامية, علي رأسها الطالبان والجهاديون الإسلاميون. من أفغانستان الي باكستان الي الجزائر ومصر وتونس وسوريا والعراق وايران والأردن واليمن وغيرها. أليست هي الحكومات العربية والاسلامية المتعاونة مع الاستعمار الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي؟. لايكون العلاج بوضع المراهم علي الجروح, أو أن يصدر وزير التعليم قرارا بنقل المعلمة أو فصلها أو سحلها, فهي امرأة مضللة بالتعليم الهابط والإعلام والثقافة والسياسة الأكثر هبوطا, مثل غيرها من أفراد الشعب المصري, العلاج هو استئصال الأسباب التي أدت الي تصاعد قوة التيارات السياسية الإسلامية الي هذا الحد؟. العلاج هو كشف العلاقة بين الاستعمار الأمريكي الأوروبي الاسرائيلي والحكومات المصرية والعربية وغيرها من الدول الاسلامية والعلاج هو ثورات شعبية جديدة, لإسقاط الحكومات الدينية في كل الدول ومنها الحكومة اليهودية في اسرائيل, والقوي المسيحية المسيطرة علي السياسة والانتخابات والأسواق المالية والتجارية في أمريكا وأوروبا. والعلاج ليس فقط اصدار قرار بمنع النقاب والحجاب في المدارس, سواء علي التلميذات أو المعلمات, ولكن بفصل الدين عن التعليم والدستور والثقافة والفنون والقوانين العامة في الدولة, والقوانين الخاصة في الأسرة. لابد من إصدار قانون يعاقب الأم أو الأب الذي يفرض الحجاب علي ابنته في مرحلة الطفولة أو بعدها. ويجب تنقية الدستور المصري من كل المواد والكلمات التي تشير من قريب أو بعيد الي أحكام دينية تتعلق بالدولة أو الأسرة أو الحقوق الشخصية والعامة للنساء والرجال. هذا واجب كل فرد من شعب مصر العظيم الذي استطاع دائما أن يتخلص من كل أنواع العبودية سياسية أو دينية أو غيرهما. المزيد من مقالات د.نوال السعداوى