وستكتب أنت بنفسك خاتمة سلالة حكام العسكر لابد ستصبح آخر حصرمة في العنقود وبأيديك تجئ نهاية هذا العصر المنكود. حين قال الشاعر' حسن طلب' هذا في قصيدته' مبروك مبارك' التي أطلقها عام2005, عدها البعض خروجا علي سياق ضم جل أعماله, انتصر فيه للفني علي السياسي عبر مسيرة عامرة بالإبداع والمبدئية. وبالرغم من تحقق نبوءته هذه تفصيلا بسقوط الدكتاتور, لم يقبل تفسيرها بغير أنها كانت محض أمنية لشعب منكوب, وشاعر أحس ألمه. فاجأنا جميعا بصيحته تلك في وجه مستبد دهس الحريات, وإلتهم أرزاق العباد, ولم يعد في القوس منزع, فكان لابد منها بعدما:' وصل الاستهتار بمصر وبالإنسان المصري درجة فاقت منتهي القدرة علي الاحتمال, وهذه بالضبط اللحظة التي يجب فيها علي الفنان أن يجازف, فيجعل الناي الذي يغني به سلاحا في معركة من العار أن يهرب منها, مهما كلفته من تضحيات', وفق تعبيره. * هذا الشاعر نفسه الذي أدهشنا كثيرا بتحليقاته الرائعة, يظهر لنا أحيانا وجها أحاديا جادا لا يطيق الرماديات في اللحظات العامة الفارقة, فنري بداخله صعيديا صارما متخفيا, لايقبل المواءمات أبدا علي حساب القيم, هذبه الشعر كثيرا, وحنكته الفلسفة طويلا, وأكسبته الخبرات تجربة حياتية ثرية, لكن هذا كله يتعطل إذا توجبت قولة حق لا تحتمل مواربة, فيحسبها البعض حدة زائدة, لكن سائر من يعرفونه يوقنون بأنها استقامة تنطوي علي قلب صاف, وسريرة بيضاء, ونيات حسنة لا مقصد لها سوي خيرية الانسان وصلاح الأحوال, وهذه من أجل غايات الشعر والفلسفة. قصيدتك' مبروك مبارك' التي نشرت في2005 بدت مفاجئة للجميع لطبيعتها السياسية المباشرة ومخالفتها موقفك المعروف من فنية الإبداع, فما الذي يضطر المبدع أحيانا لبعض الوضوح, هل الحتمية السياسية, أم إظهار الموقف المبدئي؟ أسرفنا علي أنفسنا كثيرا في ذم الوضوح في الفن علي طول الخط, إسرافنا في مدح الغموض علي طول الخط! فرددنا ما طرحه' أدونيس' نثرا, دون تفكير, وصدقنا ما قاله' محمود درويش' شعرا:( إن الوضوح جريمة/ لن تفهموني دون معجزة/ لأن لغاتكم مفهومة/ وغموض موتاكم هو الحق الحقيقة!). والحق أن الشعر الحقيقي ليس الواضح ولا الغامض, وإنما هو شعر فحسب! وآية ذلك أن معظم الخوالد الشعرية التي صمدت في وجه الزمن, لا ينقصها القدر الكافي من الوضوح, فالمشكلة ليست في الوضوح- أو الغموض- المطلق, بقدر ما هي في غني الشعر الحقيقي وتعدد مستوياته الدلالية; وهذا أمر طبيعي ما دمنا بإزاء لغة الرمز, في كل من النص الشعري والديني جميعا. أما قصيدتي' مبروك مبارك', فلا وجه للحديث عن تعدد الدلالة فيها, ولا حتي عن اللغة الرمزية, لأن الرمزية تكون ضارة حين تحرم القصيدة من المواجهة السافرة, وتخفي عريها الجارح تحت عباءة الرمز. وهذا الشعر موجود في كل عصر, وغايته محددة سلفا, ويعلم الشاعر أن قصيدته ستخسر إذا استبدلت اللغة المباشرة بالرمز, ولكنه يستطيع تعويض هذه الخسارة بعناصر شعرية أخري, مثل الإيقاع المغري والبناء المحكم. غير أن خسارة الشاعر بالابتعاد كلية عن المواجهة الضرورية لا تعوض. وبالرغم من رفضك الصارم لتنبؤية الشاعر,بدوت متنبئا في هذه القصيدة تحديدا حين قلت لمبارك: ستتم من الأعوام ثلاثون ولكن لن يرث الوارثون سينقشع الوالد والمولود وهو ما حققته ثورة يناير, فالوالد والمولود يقبعان في سجنيهما الآن, ومشروع التوريث انتهي برمته, فمن أين تأتت لك هذه الشفافية؟ كتبت هذه القصيدة في وقت بلغ فيه نظام' مبارك' قمة فساده, ووصل الاستهتار بمصر وبالإنسان المصري درجة فاقت منتهي القدرة علي الاحتمال, وهذه بالضبط اللحظة التي يجب فيها علي الفنان أن يجازف, فيجعل الناي الذي يغني به سلاحا في معركة من العار أن يهرب منها, مهما كلفته من تضحيات. وكما يعلم الجندي الذي يدافع عن الحدود أنه يمثل وطنه ومستعد أن يموت دفاعا عنه, فكذلك الشاعر في هذه اللحظة. أما عن تنبؤ القصيدة بأن' مبارك' سينقشع مع ابنه ونظامه كله, بعد أن يكمل ثلاثين عاما في الحكم; فينتهي بانقشاعه حكم العسكر ويسقط مشروع التوريث, فهو في الحقيقة ليس نبوءة بقدر ما هو أمنية, لم أكن أحلم بها وحدي عام2005, بل كان يحلم بها المصريون جميعا, وقد تحققت الأمنية عام2011, وهذا الذي جعلها تبدو كأنها نبوءة! والشاعر في الحقيقة ليس متنبئا ولا قارئ غيب! الشاعر لا يستطيع أن يكون زرقاء اليمامة, وإنما يستطيع فقط أن يكتب عنها! هذا يقودنا لشائكية العلاقة بين الفني والسياسي هنا, فكيف تتعاطي مع هذه المعادلة المعضلة, وكيف تري تلك العلاقة في تجلياتها المتباينة؟ متي تكون ضرورة ومتي تكون خطيرة علي المبدع؟ نحن نخلط دائما ما بين الأدب الثوري من جهة, وأدب الثورة من جهة أخري, وهما غير متطابقين بالضرورة, وهو ما انتبه إليه' طه حسين' عام1954, حين انشغل الكتاب بالبحث عن الأدب الذي استجاب لثورة1952, فخاب رجاؤهم! واتهموا الأدباء بالإخفاق! غير أن' طه حسين' بحسه النقدي الرفيع, علمهم كيف أن الأدب يثور دائما قبل أن تثور السياسة, فثورة الأدب هي التي تمهد الطريق لثورة السياسة. أما الأدب الذي ينشأ أثناء الثورة فإما أن يجري علي طبيعته الأولي ويكون اتصالا للأدب القديم, وإما أن يحاول مجاراة الثورة السياسية, فلا يخرج عن أن يكون دعوة لها وإغراء بها! وهو في هذه الحال أدب ضعيف فاتر, لأن الأحداث المادية الواقعة أقوي منه وأخطر أثرا. ولا يختلف فلاسفة الفن المعاصرون كثيرا عن رأي' طه حسين', فها هو' هربرت ريد' مثلا يعرف الفن الثوري بأنه ليس إلا ذلك الفن الذي عليه أن يكون ثوريا! بعيدا عن البيارق الحمراء والمطرقة والآلة( يشير إلي نظرية الانعكاس الماركسية أو الواقعية الاشتراكية). وهذا يعني ببساطة أن الأدب الثوري ضروري في كل وقت, وذلك إذا فهمنا الثورة بمعناها الشامل, حيث قد يثور الفنان علي مذهب أو اتجاه عفا عليه الزمن, أو قد يثور علي شكل من الأشكال الفنية, أو يثور علي نفسه حتي لا يكررها! أما الخطر الحقيقي, فيبدأ حين يستغرق الفنان في بعد واحد من الثورة هو البعد السياسي, لأن فنه لن يكون في هذه الحال إلا مجرد تابع أو صدي للأحداث السياسية. وبعد ثورة يناير رأينا تجليها في شعرك بثلاثيتك المعروفة( إنجيل الثورة وقرآنها), وصدر منها حتي الآن الجزء الأول' آية الميدان' والثاني' إصحاح الثورة', فأيهما قاد الآخر بداخلك وتأثر به أكثر, قريحة المبدع أم تداعيات الثورة؟ أحداث الثورة وتداعياتها هي التي فرضت نفسها, ونحن محظوظون لأننا عاصرنا يوم25 يناير حدثا فذا نادر الحدوث في تاريخنا, وعشناه لحظة بلحظة. وبالنسبة لي لم تكن ثلاثية' إنجيل الثورة وقرآنها' إلا امتدادا طبيعيا لقصائدي السابقة ضد' مبارك' ونظامه, سواء في' مبروك مبارك'2005, أو' متتالية مصرية'2004, أو' حجر الفلاسفة'2000, فكأني كنت في حالة ثورة ممتدة طوال هذه السنوات, ولم يبق لي إلا أن أتم الجزء الثالث' سفر الشهداء', لأحس بأن هذه المرحلة الثورية في شعري وصلت إلي تمامها, خاصة بعد القصيدة الطويلة الأخيرة:' كفوا عن التضليل'. في مصر الأمر يبدو مربكا وملتبسا, فتحت الاحتلال الانجليزي إزدهرت النخبة الثقافية, وقدمت قامات رفيعة, ساعدت إبداعاتها وإن بقيت نخبوية علي بلورة هويتنا الثقافية والوطنية بجلاء, رغم افتقاد الوطن ذاته لحريته, وبعد ثورة يوليو والاستقلال وتوفر الكرامة الوطنية أهدرت الحريات بدرجة محزنة, وخلال حقبتي السادات ومبارك تشوهت أغلب منظومات الإبداع والقيم في مجملها, والآن بعد ثورة يناير يبدو الأمر ضبابيا, ولا يبدو الاتجاه واضحا.. فكيف تري مسيرة هذا الوطن إبداعيا؟ حين نراجع نهضة آدابنا وفنوننا منذ فجر العصر الحديث حتي اليوم, ربما نكتشف أن ما أنتجناه من أدب حول الأحداث الدامية في صراعنا مع المستعمرين, ليس هو أفضل ما لدينا. نستطيع مثلا أن نقول إن القصائد التي قيلت في حادثة' دنشواي' ليست أهم ما كتبه أصحابها, ولا هي أرقي فنيا من سائر أعمالهم, وكذلك الحال في القصائد التي قيلت في أثناء عدوان1956, أو في انتصار أكتوبر1973, ولا شك في أن فرعونيات' أمير الشعراء' مثل قصيدة' النيل' و'أنس الوجود' و'أبي الهول' وغيرها, من الناحية الفنية تفوق قصائده عن دنشواي والأحداث السياسية الجارية في عصره, ولا يقل دورها في تنمية الوعي بالهوية أهمية عن قصائده الوطنية المباشرة. أما شعر ثورة25 يناير, فسواده الأعظم ستذروه الرياح, لأن معظم الشعراء أرادوا فحسب أن يقدموا أوراق اعتمادهم, وبعضهم نظم شعرا ثوريا علي سبيل غسيل الضمائر! والبعض الآخر وجد في الشعر الثوري تجارة رابحة وسبيلا إلي الشهرة والنجومية, ولكن الشعر أمكر منهم جميعا, وأظن أن شعر ثورة25 يناير لم يكتب بعد, اللهم إلا بعض المحاولات هنا أو هناك. آخر أسئلتي يتصل بشخصك إذا سمحت لي, فالجميع يعرفك كشاعر وأستاذ للفلسفة, وكل من اقتربوا منك يدركون طيبة قلبك, وبجوارها بعض حدة في الطبع, وصرامة في المواقف لا تقبل اللين أو المواءمة, فكيف يجتمع بداخلك كل هذا في آن؟ فبقدر لطفك قسوت علي' د. جابر عصفور' في انتقادك له, أليس للشعر والفلسفة دور في تهدئة تلك الحدة؟ أو علي الأقل تلطيفها ببعض المواربة؟ من مآثر' أمل دنقل' الباقية, أنه نجح في استكناه شخصية الصعيدي في رائعته( الجنوبي), وهي شخصية لا تتناقض فيها الحدة مع الطيبة, بل تصبحان متكاملتين كوجهي العملة! أما عن الدكتور' جابر عصفور', فهو صديق قديم منذ السبعينيات, صحبني وصحبته وزارني في بيتي وزرته, واطلع كل منا علي شئ من أسرار الآخر, وأنا أول من يعرف قدره ويقر بمكانته أستاذا جامعيا قديرا ومثقفا كبيرا, وأحسب أنه لم يضن علي بمثل هذا التقدير, فقد تحدث عن شعري في أمسية ثقافية مع فاروق شوشة منذ عشرين عاما ليراني في' زمان الزبرجد' قد تجاوزت أعلام الشعراء. وهذا مما لا أنساه له. ولم ينشب الخلاف بيننا إلا بسبب سياسات وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني, فقد كنت دائم الانتقاد لتلك السياسات منذ التسعينيات, وحتي اليوم, وسوف أظل في الغد كذلك, ما دامت الأمور علي ما هي عليه. ومن الطبيعي أن يمس النقد كبار موظفي وزارة الثقافة ومن بينهم الدكتور جابر عصفور; وسواء كنت محقا في هذا النقد أم لم أكن, فالأمر في النهاية لا يخرج عن حدود هذا الخلاف, أما ما فهم خطأ من مساس بذمة الدكتور جابر المالية, فهذا أمر لم أقصد إليه بالمرة, وأنا بريء منه تماما, فما حصل عليه من اتحاد الكتاب لسداد نفقات العلاج, حق أصيل له باعتباره عضوا في الاتحاد.