من التقاليد الطيبة التي التزمت بها حياتنا الثقافية منذ إنشاء جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية في1958, إقامة احتفال سنوي كبير يحضره رئيس الجمهورية مع جموع الكتاب والفنانين والجامعيين, وتوزع فيه هذه الجوائز علي الفائزين بها. وكان من عادة الفائز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب, بصفته من المعبرين بالكلمة, أن يلقي في هذا الحفل خطابا ضافيا يتحدث فيه بأرفع بيان عن دور الآداب والفنون في دعم تقدم الأمم والشعوب, وفي توطيد هويتها, وفي صنع مجدها, حين تتساوي الثقافة مع السياسة, ولا يتناقض الفكر مع الحكم. ومن هذه الكلمات ما كان يعرض للمشكلات التي يعانيها الوطن, أو تعانيها الثقافة المصرية وتحتاج إلي حل. ومع هذا فلم يحفل نظام مبارك بالإبقاء علي هذا التقليد الذي لم يكن يستغرق غير ساعات قليلة, كما حدث أيضا في لقاء الرئيس في افتتاح معرض القاهرة الدولي اللكتاب, استهانة منه ومن الدولة بالثقافة والمثقفين, وتجنبا لوجع الدماغ والشغب الذي كان يثار في مثل هذه التجمعات. توقف الاحتفال بجوائز الدولة الذي كان عيدا من الأعياد المصرية, دون اعتذار للذين كانوا ينتظرونه علي أحر من الجمر من السنة إلي السنة, ودون أن يعلن حتي عن هذا التوقف. ومن جهة مقابلة ضاع هذا التراث الثمين من العلم والمعرفة الذي يفيض بالحكمة والجمال, لأن مؤسسات وزارة الثقافة لم تكن تكترث بجمع هذه الخطب ونشرها في كتب, كما أنها لم تكن تأبه بحفظها في أرشيفها, لمن يريد من المثقفين والباحثين أن يطلع عليها, ويملأ نفسه بها. ولأن طه حسين كان أول الفائزين في تاريخ هذه الجائزة, فقد وقع عليه الاختيار لإلقاء هذه الكلمة التي يعتز الملحق الثقافي بنشرها في ذكراه, لما تنطوي عليه من آراء ودلالات خصبة عن الحياة والفن, تجعلها جديرة بأن تقرأ جيلا بعد جيل. نص الكلمة التي ألقاها طه حسين سيدي الرئيس.. أرجو أن تتفضل فتأذن لي في أن أهدي اليك من أستاذي الجليل أحمد لطفي السيد ومني ومن كل هؤلاء الذين أتيح لهم أن يروك الليلة.. أرجو أن تتفضل فتأذن لي أن أقدم لك بأسمنا وباسم هؤلاء السادة جميعا أصدق التحية وأعمق الشكر وأعظم الاعتراف بالجميل والفضل فقد أتيح لهم أن يروك لا في حفل سياسي, ولا في حفل اجتماعي أو اقتصادي, ولكن في تحية الأدب والعلم والفن. وليس قليلا علي العلم والفن والأدب أن يحظي بتشريفك ورعايتك. وليس قليلا عليك أن تكون بحيث تتيح للعلم والفن والأدب أن تتشرف بلقائك, وأن تتلقي منك, التحية وتهديهك إليك صادق عميقة زكية, وأن لي يا سيدي أن قدم أجمل الشكر وأخلصه إلي مجلس الفنون والآداب والعلوم والاجتماعية, وإلي السيد الكريم كمال الدين حسين رئيس هذا المجلس لأنهم أتاحوا لنا أن نتلقي منك هذا الشرف العظيم. ونحن حين نتلقي منك هذا الشرف العظيم أنما نسعد لأننا نتلقاه من شخص نحبه ونكرمه ونجله, ونتلقاه من شخص يمثل الدولة ويسدي إلينا باسمها تقديرها وتكريمها. وأني يا سيدي الرئيس لأشعر بأنك تكرمني مرتين. تكرمني حين تكرم أستاذي أحمد لطفي السيد وكل تكريم للأستاذ فانما هو تكريم لتلاميذه أيضا. وأشعر بهدا التكريم مرة أخري حين أتاح لي مجلس الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية أن أتلقاه من يدك الكريمة. وأحب يا سيدي الرئيس وأنا أشرف بالحديث إليك أن أقول لهؤلاء السادة الذين ظفروا بالجوائز التشجيعية والذين ظفروا بالدرجات العلمية, والذين يطلبون العلم في المعاهد والجامعات أن أقول لهم بحضرتكم وبحضور السيدة وزير التربية والتعليم أن الجوائز والدرجات العلمية مهما تكن ومهما تعظم لا ينبغي أن تغر طالبا من طلاب العلم والأدب عن نفسه, ولاينبغي أن ترضيه عن نفسه أيضا, فويل لطالب العلم ان رضي عن نفسه مهما يكن متفوقا, وويل للعالم مهما برع وللأديب مهما يتيح له النجاح والنبوغ ان يرضي عن نفسه. وآفة العلم والفن والأدب انما هي قبل كل شيء أن يرضي الطالب أو العالم عن نفسه, لأنه يوم يرضي عن نفسه لا يحصل شيئا ولا ينتج شيئا, ولا يرضي عنه وطنه ولا شعبه والانسانية التي يعمل لها ببحثه وجده وبعلمه وفنه وأدبه. سيدي الرئيس أن أخص ما يمتاز به الأديب الحق والعالم الحق والفنان الحق إنما هو أن يكون ساخطا علي نفسه دائما, طامحا إلي الكمال وإلي خير مما انتهي إليه دائما, مقتنعا بأن الكمال شيء لا سبيل إلي الظفر به وهو مع ذلك يدعونا إلي أن نسعي إليه دائما, لا نقصر ولا نكل إلا حين يستحيل علينا أن نجد وأن نجتهد وأن نسعي. ان الكمال يخيل إلينا دائما أنه قريب منا, ويدعونا دائما إلي أن نسعي لندنو منه ولنبلغه ويدفعنا دائما إلي الجد والكد والعمل لنقرب منه قليلا, ولكنه ينأي عنا كلما دنونا منه, ينأي عنا لنزداد جدا وكدا وعملا وسعيا. فلنكن دائما مطمئنين إلي أن حياتنا لم تمنح لنا لنستريح ولا لنربح, وانما منحت لنا لنكد ونجد وندفع غيرنا دائما إلي الكد والجد والعمل. واني لسعيد يا سيدي الرئيس أن أتاح الله للدولة أن تقدر العلم والأدب والفن, وأن تقرن هذه الأمور الثلاثة فلا تقدم واحدا منها علي الآخرين, ذلك لأن هذه الثلاثة هي دعائم الحضارة, والأدب أقدمها وأكبرها سنا, وهو الشيء الذي عرفته الانسانية أول ما عرفت نفسها, وهو الذي أتاح لعقلها أن يرقي قليلا قليلا, حتي يستطيع أن يبلغ الفلسفة والفن, ويستطيع أن يصل إلي الانتاج العلمي. وقد وصلنا إلي عصر لا نعرف فيه أمة تفوقت في العلم إلا وقد تفوقت في الوقت نفسه في الفن والأدب, فهي مقترنة دائما لا تفترق, وإذا ضعف أحداها في أمة فليس من شك في أن الآخرين سيضعفان أيضا, فقديما قال بعض الفلاسفة إن العلم الذي لا يصحبه الضمير انما هو وبال علي النفس. والأدب والفن يا سيدي الرئيس هما اللذان يوقظان الضمير ويبعثان فيه الحياة. وأني لأشكر للدولة وأشكر لها في شخصك لأنك قائدها المظفر إلي الكرامة والعزة والحرية, وقائدها المظفر إلي المجد الأدبي والعلمي أيضا بهذا الحث المتصل الذي لاتزال تبعثه وتبذله وتلح فيه ليعمل أبناء الوطن جادين مجتهدين حتي يبلغوا اقصي ما يستطيعون أن يبلغوا من التفوق في الأدب والعلم والفن. تقبل يا سيدي الرئيس من الاستاذ الجليل أحمد لطفي السيد ومني ومن هؤلاء السادة جميعا أجمل الشكر وأصدق التحية.. زادك الله توفيقا إلي توفيق ونجاحا إلي نجاح, وزاد الأمة العربية عزة وكرامة ومجدا.