في أثناء حوار كنت أجريه عام1996, مع ريتشارد هاس الذي عمل مساعدا للسياسة الخارجية للرئيس بوش الأب, ويشغل حاليا منصب رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية, قال: إن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة في القرن الثامن عشر, خافوا من أن تصبح السلطات التي يتمتع بها الرئيس, سببا يغريه علي الطغيان, ولهذا جعلوا الكونجرس شريكا له في صنع السياسة الخارجية. فجاء الدستور داعيا للصراع بين الرئيس والكونجرس, عند اتخاذ قرار يتعلق بالسياسة الخارجية, وفي نفس الإطار سمح النظام السياسي, لجماعات المصالح وقوي الضغط, بأن تشتبك فيما بينها, من أجل مصالحها, ومن تملك أكبر قدرة علي الضغط والتأثير هي التي يأتي القرار لمصلحتها. وبذلك يصدر قرار السياسة الخارجية خاضعا لما يجري من صراع في الداخل, أكثر من تأثره بحسابات العلاقة مع أطراف المشكلة التي ستتحدد بشأنها السياسة الخارجية. وقد اهتمت بهذه الحقيقة الدول التي استوعبت طبيعة عمل النظام السياسي في الولاياتالمتحدة, وحرصت علي أن تكون لها إدارة لقضيتها, داخل الساحة السياسية الأمريكية, دون أن يقتصر نشاطها علي مستوي العلاقة الثنائية مع حكومة الولاياتالمتحدة, فعلت ذلك دول كبيرة مثل الصين, والهند التي نظمت لنفسها قوة ضغط تمارسها مؤسسات أمريكية, ومارست نفس النشاط دول صغيرة. إن جانبا من أسباب افتقاد التوازن في العلاقة العربية الأمريكية, يرجع الي إغفال أهمية المستوي الثاني في إدارة العلاقة, وأذكر في مناقشة مع مسئول بالخارجية الأمريكية في واشنطن, انني سألته: ألا تري معي أن سياسة حكومتكم المنحازة قليلا لإسرائيل, تضر بمصالحكم الهائلة في الدول العربية؟.. وأضفت, لك أن تعتبر أن سؤالي هو نظري أو افتراضي, وأجابني المسئول: هذا صحيح نظريا, لكنه غير صحيح عمليا, فالعرب يديرون علاقتهم مع مواقفنا من النزاع العربي الإسرائيلي بشكل يتجرد من امتلاك أوراق التأثير علي نظامنا السياسي, ودون أن تلمس أصابعهم مفاتيح التأثير علي سياستنا الخارجية. .. إن مواقع التأثير في الداخل التي تمارس الدول دورها من خلالها تتكون من: مراكز البحوثThinkTanks التي تضم النخبة من مسئولين سابقين في البيت الأبيض, ومجلس الأمن القومي, ووزارتي الخارجية والدفاع وغيرها, كما تضم الاعلام بمختلف وسائله, والمعاهد الأكاديمية, وكلها تدير ندوات ومناقشات ومؤتمرات, وورش عمل, وتنشر أوراق عمل, وكتبا, ولهم كتاباتهم في الصحف, بالاضافة الي وسائل أخري. صحيح ان استطلاعات للرأي كانت قد أجريت منذ أوائل التسعينيات, ووجدت أن غالبية الرأي العام لهم نظرة سلبية تجاه ما وصفوه بسيطرة جماعات المصالح وقوي الضغط علي قرار السياسة الخارجية, ودفعه في اتجاه يحقق مصالحها, حتي ولو لم يتفق مع مصالح الشعب الأمريكي. لكن هذه الآراء كانت تنتهي الي الإعراب عن عدم الرضا, ولا تصل الي أبعد من ذلك, تأثرا بثقافة اجتماعية لدي الأمريكيين, تعبر عنها مقولة تقليدية تكاد تكون اكليشيه وهي هذه هي أمريكا, بمعني التسليم بما هو قائم, مادام هذا التقليد أصبح بمثابة عرف في النظام الأمريكي, وأمر مسلم به. ومن الأمور المسلم بها, دور النخبة في صناعة القرار السياسي, بافتراض أن لديها توكيلا من الشعب, لاتخاذ القرار نيابة عنه, وهو توكيل موجود كعرف, وليس بناء علي تعاقد أو اتفاق مكتوب, وربما كان لهذا الوضع ما يبرره هناك, لان المواطن الأمريكي العادي لم يكن بطبيعته مهتما بأمور السياسة الخارجية, وكل ما يشغل تفكيره, هو شئون حياته اليومية والمعيشية, ولهذا ترك النخبة التي تضم المتفوقين والنابغين في مجال تخصصهم, تدير مسائل التنظير والتفكر والتوجيه للقرار السياسي. ولعل مجيء أوباما بقراره الذي لم يكن متوقعا حسب مقاييس النظام السياسي, مقترنا برغبة جماعية عارمة في التغيير, خرجت عن إطار الاكليشيه التقليدي هذه هي أمريكا, كان مبعثه إدراك أن التحدي الأكبر للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين, يتمثل في قدرتها علي أن تتغير لتلاحق التغيير الجاري في العالم من حولها, وإلا فقدت مكانتها ونفوذها في العالم, وهو المعني الذي بدأت كبري المؤسسات الأمريكية تتحدث عنه ابتداء من عام2008, بل سجلته وثائق رسمية منها علي سبيل المثال, تقرير المجلس القومي للمخابرات الأمريكية. ومن أبرز مفاهيم التغيير التي ظهرت مع وصول أوباما للبيت الأبيض, مفهوم الشريكPartener أي الدول القادرة علي أن تكون لاعبا دوليا وإقليميا, استنادا الي امتلاكها رؤية واضحة, واستراتيجية عمل, وهو ما عبر عنه أوباما كثيرا, ولخصته مقولته: إن الولاياتالمتحدة لم تعد تستطيع وحدها أن تحل مشاكل العالم, أو تتصدي منفردة للتحديات لأمنها القومي, وأنها تحتاج شركاء يتعاونون معها ويمدون لها أيديهم. فهل طرأ أي تغيير علي تفكير العرب في التعامل مع هذا المستوي الثاني المؤثر علي السياسة الأمريكية, وهو أمر يدخل في صميم اختصاص إدارة المصلحة العربية العليا, ناهيك عن الغياب التام عند المستوي الأول؟.