لاينبغي أن يذلل المسلم للخير كما تذلل البهائم وإنما يجب أن يفعل الخير لأنه يدرك آثاره الإيجابية, ويخاصم الشر لأنه يعرف سوء عاقبته. وقد نعي القرآن الكريم علي من يحملون الكتب السماوية دون فهمها والعمل بمقتضاها مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا الجمعة/5 ولما كان الحج فريضة إسلامية, بل هو الركن الخامس من أركان الإسلام ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا آل عمران/97, فأن المسلم ينبغي عليه أن يعيش مناسكه ويتدبر معانيها ويفتش علي مغزاها ويتأمل ماوراء الحركة والفعل والسلوك من أسرار ومعان يجل الوصف عن الإحاطة بها. بل لعلنا لانبالغ إذا قلنا إن كل منسك يمكن أن يتسع لمجلدات لو تدبر المرء حكمته وعظمته. وسنحاول فيما يلي أن نوضح بعض المعاني التي يرمز إليها الحج بقدر ماأفاء به علي عقل محدود قاصر. أولا:- عظمة الإسلام في يسره:- أول هذه المعاني يتجسد في عظمة هذا الدين الذي ربط الخالق جل في علاه بين تكاليفه والقدرة البشرية علي تنفيذها ليتجلي لنا معني قوله تعالي لايكلف الله نفسا إلا وسعها البقرة/286 لايكلف الله نفسا إلا ماآتاهاالطلاق/7 وعندما يربط ربنا أمره بأداء الحج باستطاعة المسلم وقدرته المادية ليمتلك الزاد والراحلة ومايكفي أسرته حتي عودته,بل ويربط ذلك بحالته الصحية فإن ذلك يأتي إعلانا عن عظمة هذا الدين الذي أعلن رسولنا صلي الله عليه وسلم عن بساطته ويسره إن هذا الدين يسر. ولعل هذا ماحدث في سائر العبادات فمن لم يجد الماء يتيمم فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا النساء/.43 واذا لم يستطع المسلم أن يصلي قائما فليصل قاعدا!! ومن أدركه رمضان وهو مريض أو كان مسافرا أفطر ومن كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام آخر البقرة/.185 ثانيا: الهجرة إلي الله:- ترك المكان ومغادرة الأهل والأحباب ابتغاء مرضاة الله سنة الأنبياء والمرسلين فآمن له لوط وقال إني مهاجرا إلي ربي أنه هو العزيز الحكيم العنكبوت/.26 وقد طاف الخليل ابراهيم بأماكن شتي وتجول بأقطار عديدة, وترك زوجه وولده بواد غير ذي زرع لينفذ أمر ربه ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرمأبراهيم/37 وتسأله هاجر: أالله أمرك بهذا؟؟ فيجيب نعم.فترد إذن لن يضيعنا إنها رحلة إيمانية يفارق بمقتضاها الإنسان ماله وولده وداره وزروعه وثماره وذهبه وفضته ابتغاء مرضاة الله وهذه الهجرة تفيض برمزية بالغة الدلالة, يخوض الانسان هذه التجربة وهو مستعد لها بالزاد والراحلة, واحتمال عودته إلي وطنه مرة أخري قائم بعد أن يمن الله عليه بالمغفرة. إنها رحلة تبدو شبيهة بسفر لاعودة منه, لأن الموت ينقلنا إلي عالم آخر حيث يكون القرار كما نادي مؤمن آل فرعون ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار غافر/39 وكما يستعد الانسان لرحلة حجه, عليه أن يستعد لسفره الطويل وتزودوا فإن خير الزاد التقوي البقرة/.197 ثالثا: تجسيد فكرة الموت:- تذوب الفوارق بين الناس في رحلة الحج, والجميع متساوون لايستطيع غني مهما أوتي من أموال أن يتميز في ملبسه, وكل الخلائق يرتدون لباسا شبيها بأكفان ألموتي عبارة عن إزار ورداء وهما غير مخيطين,وهو تجسيد واقعي حي لتلك اللحظة التي يفارق فيها المرء دنياه تاركا ماخوله الحق إياه ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخولناكم وراء ظهوركم الأنعام/.94 فمن أدي فريضة الحج أو شاهد الحجيج عبر التلفاز فقد تقمص دور الميت الذي يفارق الدنيا. رابعا: تكريم المرأة:- جاء الخطاب القرآني موجها إلي الرجل والمرأة فاستجاب لهم ربهم أني لاأضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثيآل عمران/195 من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة النحل/97 وقد جاءت بعض سور القرآن الكريم تحمل اسم النساء واسم مريموالمجادلة تأكيدا لمكانة المرأة في الإسلام. ولعل التأمل في مناسك الحج والتوقف عند السعي بين الصفا والمروة ليرمز إلينا بدليل قاطع يدحض تلك الافتراءات التي يوجهها خصوم الاسلام بين الحين والآخر من أنه دين يعادي المرأة. وعندما يقف الحجيج لتأدية حجهم فأنهم حتما ساعون بين الصفا والمروة إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما البقرة/158 ويأتي السعي اقتداء بالسيدة هاجر أم إسماعيل وإلي أن يرث الله الارض ومن عليها يظل الحجاج والمعتمرون ساعين بين الصفا والمروة كما فعلت أمنا هاجر رضي الله عنها. ومن هنا فإن هذا الفعل شاهد علي احترام المرأة وتقديرها وآنحاذها أسوة سلوكية لأمة بأسرها. خامسا: الوقوف الجماعي ضد الشر:- التصدي للفساد والشر ليس مسئولية مسلم بعينه, وانما هي مسئولية المجتمع كله من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ولقد قطع أبليس علي نفسه عهدا قال فبعزتك لأغوينهم أجمعينص/82 ولذا فإن عملية رمي الجمار التي تحدث في مني أيام التشريق لاتعطي فقط رمزية التصدي للشر والفساد, وإنما وجوب أن تكون المواجهة جماعية وفي وقت واحد حتي يكون التصدي فاعلا ومؤثرا. ولو أن المسلمين عمموا هذا المشهد وجسدوا هذا السلوك في حياتهم فوقفوا ضد كل فساد, وحاربوا كل شر, وتصدوا لكل رذيلة بروح جماعية وسواعد متعاونة مانال منهم عدو وربحوا كل قضاياهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.ولتحقق بينهم قول الرسول صلي الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.