كان من الطبيعي أن يرتبك مفهوم الدولة المدنية في موازاة مبدأ المواطنة في الوقت ذاته, وذلك في سياق التحولات التي صاحبت زمن الساداتهكذا بدأ التعتيم علي شعار الدين لله والوطن للجميع في موازاة تحويل معني المواطنة واستبدال مسميات عقائدية به, وظهر أثر ذلك في صياغة الدستور المصري منذ السبعينيات الساداتية التي شهدت تحالف السادات مع تيارات الإسلام السياسي والإفراج عن معتقليها, كي ينصروه علي أعدائه من الناصريين واليساريين الذين تخلص منهم, فيما أسماه ثورة 15 مايو 1971. وتوثقت العلاقة بين مصر الساداتية وخصوم التجربة الناصرية في الخليج وشبه الجزيرة. وشيئا فشيئا, استبدل السادات بالتحالف مع الاتحاد السوفييتي الصداقة مع الولاياتالمتحدة التي تمتلك أهم أوراق اللعبة في قضية الشرق الأوسط. واستقر له الأمر بوصفه الزعيم المؤمن ورب العائلة المصرية في دولة العلم والإيمان. وقام رجاله بتزويد شباب التيارات الإسلامية بمساعدات مادية ومعنوية للقضاء علي بقايا المتمسكين بالناصرية من الطلاب, فضلا عن أقرانهم من اليساريين والقوميين. وشهدت هذه الفترة أنشطة العنف ضد الطلاب الرافضين للإسلام السياسي. وكانت أواخر السبعينيات نهاية التحالف بين السادات (الرئيس المؤمن) وتيارات الإسلام السياسي التي أخذ يقاومها بشعارات من قبيل لا دين في السياسة, ولا سياسة في الدين. ولكن رفع الشعار جاء متأخرا جدا, خصوصا بعد أن ساعد السادات تيارات الإسلام السياسي علي تحقيق التمكين الفعلي لوجودهم. وكانت إزاحته الدامية في السادس من أكتوبر 1981 هي الحل الأمثل لإسكاته بجريمة اغتياله النكراء التي ستظل جريمة مهما تغيرت أنظمة الحكم وأزمنة الهيمنة. وكان السادات قد أعطي الضوء الأخضر, في سنوات التحالف مع تيارات الإسلام السياسي, لما أطلقوا عليه أسلمة قوانين الدولة. وجاء دستور 1971 إنهاء للحقبة الناصرية ونظامها, القائم علي الحزب الواحد. وارتفعت المادة الخاصة بالدين الإسلامي من الأحكام العامة التي تختتم بها أبواب الدستور إلي صدارته لتصبح المادة الثانية التي يكون لها موضع المبدأ الحاكم كله. هكذا أصبحت المادة الثانية: الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. وكان من الواضح أن المادتين الثانية والرابعة بمثابة إعلان قطيعة دستورية مع النظام الناصري, فالانتقال من واحدية الحزب إلي تعددية الأحزاب انتقال حاسم نحو الديمقراطية التي سرعان ما أصبح لها أنياب في زمن السادات, ولا يقل عنها حسما اختيار الاشتراكية الديمقراطية, وكان نموذجها الباهر في ذلك الوقت السويد. أما المادة الثانية فقد كانت الزيادة التي أضيفت لها إرضاء للحليف الآخذ في الصعود من تيارات الإسلام السياسي. ومن الواضح أن هذا الحليف لم يرض تماما عن عبارة مصدر للتشريع. ولم يهدأ إلا بعد أن تعدلت الصيغة في تعديل 1980 لتصبح المصدر الأساسي للتشريع ليكتمل معني الحصر للإسلام وحده, والإقصاء لغيره. ولم يكن من الغريب أن تأتي المادة التاسعة عشرة بنص يقول: التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم. والحق أنها مادة عجيبة لا تدل إلا علي رغبة في إعلان حضور سياسي لتيار صاعد, وإلا فما فائدتها, وهي تحصيل حاصل, فأنا التحقت بالمدارس قبل دستور 1971 بأكثر من عشرين عاما, وكنت أدرس مع زملائي مادة الدين الإسلامي. وكان زملاؤنا المسيحيون يذهبون إلي فصول مغايرة لدراسة الدين المسيحي. وكان ذلك في مدرسة الأقباط بمدينة المحلة الكبري. وكانت الإجازة يوم الأحد حقا. لكن الدراسة كانت تتوقف بعد الحصة الثالثة ليذهب الطلاب المسلمون إلي الصلاة في المسجد المواجه للمدرسة مباشرة (كما سبق أن كتبت عن ذلك في هذه الصحيفة) ولا معني لوجود هذه المادة بعد المادة الثانية التي أهم ما فيها النص علي أن الإسلام دين الدولة. وهو نص كلي الدلالة يفضي ضمنا إلي ما يترتب عليه لكل من له عقل, وحتي جعله مصدرا للتشريع إضافة لا بأس بها. وهي صيغة تفتح الباب لميراث القيم الإنسانية السابقة علي الإسلام في مجالات الحق والخير والجمال. وهو الميراث الذي تمثلته الأديان السماوية السابقة علي الإسلام في الميراث الإنساني الأعم الذي لا يمنعنا إسلامنا من الانتساب إليه. وجاء زمن مبارك الذي لم تنقطع فيه أشكال التعاون غير المعلن مع جماعة الإخوان المسلمين. وكان من نتيجة ذلك دخول ما يقرب من مائة عضو إخواني في مجلس الشعب مع انتخابات .2005 وهي السنة التي تم فيها تعديل الدستور مرة أخري لصالح مطالب مشروع التوريث بتعديل المادة 76 التي لا تزال وصمة عار في جبين من أسهموا فيها. وربما كان أهم ما ورد في تعديلات 2007 ما أضيف من احتراز دستوري لنفي الصفة الدينية عن الدولة, وهو احتراز كان تعبيرا عن مخاوف النظام من تصاعد نفوذ جماعات الإسلام السياسي. والحق أن حكم المحكمة الدستورية, في زمن مبارك, كان انتصارا غير مباشر للدولة المدنية, ضد محاولات أنصار الدولة الدينية التي لم تنقطع لتديين الدولة المصرية ونفي الصفة المدنية عنها. وما لا أزال أراه أن التلاعب بالنص الأول في دستور 1971 (الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع) والاستغلال السياسي لها, والتزيد عليه بالإضافة الموجهة لدلالته, كان الخطوة الأولي في اتجاه تديين الدولة وتقريب الوصول إلي الدولة الدينية أو دولة الخلافة. ولا غرابة أن السياق الزمني لذلك هو السياق الذي شهد الاحتقان الديني بين المسلمين والمسيحيين للمرة الأولي في تاريخ مصر الحديثة, وهو الذي أدي إلي التعتيم علي شعار الدين لله والوطن للجميع. وهو الذي أدت تفاعلاته بعد سقوط دولة مبارك الفاسدة إلي انفلات معايير التطرف الديني. المزيد من مقالات جابر عصفور