في إطلالة سريعة تحدثنا سابقا عن مكونات وشروط النهضة كما شرحها المفكر الكبير مالك بن نبي, ثم أعقبت ذلك بحوار ونقاش مع هذه الشروط كنت قد نقلت لقارئي الكريم فيه أن الشروط الخمسة لأي عملية تحول نهضوي في أي مجتمع هي قراءة الواقع والانسان والأرض والزمن والحلم أو الرؤية. إن المصريين جميعا تواقون لبناء نهضة حقيقية بعد ثورة عظيمة أذهلت العالم,والتي لايمكن أن تستكمل أهدافها ومراميها إلا بأن تعطي نموذجا حضاريا ونهضويا في البناء كما أعطت نموذجا ملهما في هدم الاستبداد وتقويض الفساد. قراءة الواقع هي نقطة البداية, وهي محور الانطلاق الذي يجب أن يقرأ بشكل واقعي وعلمي, وينبغي ألا نتعامل- مع تقديرنا لهذا الواقع- بمنطق التزين النظري أو التشاؤم النفسي, بل يجب إعطاء وقت وجهد كاف لهذه القراءة الموسوعية في واقع جوانب النهضة وشروطها الأربعة الأخري وهي الانسان والأرض والزمن والحلم أو الرؤية. وقد ضربت في مقالي السابق مثلا بالواقع المالي والاقتصادي الحالي الذي تتحرك فيه الأمة المصرية والذي يعرفه كل الغيورين علي مستقبل هذا البلد ورصيده الحضاري. إن تحليل الواقع وقراءته بشكل كلي وموسوعي مهم أيضا حتي تكون التوقعات بنسبتها إلي الزمن راشدة وعاقلة, بحيث يري الجميع أن كل خطوة صحيحة- وإن بدت متواضعة- هي جزء من الطريق الصحيح.. ولذلك فإن البنية التحتية التي لا تري فوق الأرض هي جزء مهم وضروري لبناء عظيم وطريق طويل, وتصحيح التوقعات المنسوبة إلي الزمن هي القراءة الراشدة للواقع حتي لا تكون التوقعات مجرد أحلام غير مبنية علي واقع ولا علي جهد مبذول وعزم متواصل..وهو الأهم. سنجد في تاريخ الأمم وتاريخ الثورات والنهضات أن البعض تستهويه فكرة تسطيح أحلام البسطاء وتزييف الوعي بحيث يصور للناس أنه يمكن أن تبني حضارة أو تقام نهضة أو يحدث تغيير تنموي دون أن يشارك الجميع في البذل والجهد والعرق, وبعضهم يحاول أن يبيع للناس أوهاما حول قرارات لحظية يمكن أن تغيرهذا الواقع دون عمل وبناء وتأسيس عميق علي مستوي الفكر والسلوك وعلي مستوي الاقتصاد والمال وعلي مستوي السياسة والاجتماع.. وهؤلاء يجنون علي أمتهم من حيث لايدرون, لأنهم لم يجهدوا أنفسهم في تقديم بدائل حقيقية مدروسة تنقل الوطن من واقع مرفوض الي حلم مأمول, وبعضهم ربما يحاول أن يعرقل من يعمل ويحاول ساخرا ومستهزءا اللعب بعواطف الناس ومشاعرهم وقديما وحديثا قالوا( إن من لا يملك بديلا هوأكثر الناس ضجيجا). إن التحول المطلوب للخروج من ثقافة الاستبداد والفساد وما يحدثه من تغير في الأفكار والمعاملات ومن تغير في قوانين الاقتصاد والانتاج وتغير في مفهوم الحرية والابداع يحتاج الي جهد طويل.. وأول هذا الجهد هو معرفة نقطة البداية وتحليلها, لندرك معا حجم التغيير المطلوب وحجم العمل الواجب وحجم الحشد المأمول بين الجهاز الإداري للدولة الوليدة وبين المجتمع المدني,بين مؤسسات التعليم وسوق العمل,بين التنظيمات النقابية ومعاهد التربية, بين صناعة السينما والمسرح وبين الصحافة والاعلام. وعلي سبيل المثال, فإن نظرة إلي واقعنا التعليمي كما تشير كثير من التقارير وأخص غير الحكومية منها مثل تقارير التنمية البشرية تؤكد وبوضوح أن الشباب يشكل شريحة كبيرة في الهرم السكاني, ومن المتوقع أن تستمر هذه الشريحة هي الأضخم في التركيبة السكانية في مصر وحتي سنة2050. هذه الشريحة تمثل مايزيد علي30% تقريبا من اجمالي السكان,وهي الفئة العمرية من(15-29 سنة) والتي تنتقل من التعليم المتوسط الي التعليم الثانوي ثم التعليم الجامعي. إن الهيكل العمري الذي يقترن بتضخم فئة الشباب يفرض ضغوطا هائلة علي نظام التعليم وعلي جودته كما تشير تقارير التنمية البشرية,والتي تؤكد أن أكثر من30% من الشباب في هذه الشريحة العمرية لم يستكملوا تعليمهم الأساسي. وتؤكد التقارير ايضا ان الوضع الاجتماعي والاقتصادي وحالة الأسرة أهم مؤشر للتنبؤ بالانجاز التعليمي في مصر, فالأطفال في الأسرة المتوسطة والعليا يمكن أن نتوقع لهم أداء أفضل في امتحانات الشهادات العامة, وأن يلتحقوا بالجامعات.. ويعد عامل الاقامة في الريف والمدن من العوامل التي تعتبر مؤشرا أساسيا آخر للعملية التعليمية, ففي المناطق الريفية- علي سبيل المثال- فإن نسبة كبيرة تصل الي70% لم ينخرطوا في التعليم بشكل كامل,وتأتي الفتيات بنسبة82% ممن لم يلتحقن بالتعليم في هذه الشرائح. لهذا فإن إدراكنا لهذه الارقام والعناصر المرتبطة بها وغيرها يرتب لنا جملة من النتائج المهمة التي لابد للمجتمع الذي يتحرك نحو نهضة شاملة أن يدركها.. إن مجتمعا بهذا التكوين والتشكيل والتركيب السكاني لابد أن يكون التعليم فيه هو المشروع الوطني الأكبر والاستثمار الأهم, ولابد أن تكون جودة التعليم ومؤشراته محل مراقبة الدولة والمجتمع,ومن الضروري أن تشتمل مؤشرات جودة التعليم علي سد الخلل بين احتياجات سوق العمل وبين الأعداد الكبيرة والمتزايدة من الخريجين العاطلين. وحينها لابد من كسر الحلقة المفرغة التي تمثل تكدس الطلاب في مراحل التعليم المختلفة وتؤدي إلي الضغط علي الخدمة التعليمية, وهذا وبالضرورة يفضي إلي ضغوط علي أعضاء هيئات التدريس ويحملهم أعباء كبيرة, مما نتج عنه تدهور معظم مخرجات العملية التعليمية,ومن ثم تزداد مشكلة الركود والبطالة وبالتالي يحتاج الأمر الي مراجعة كل مفردات هذه الحلقة, وكذلك كل العناصر المرتبطة بها كما يتطلب الأمر مراجعة المحتوي الخاص بالمناهج لضمان تعريف بعض القيم الأساسية التي تكون إنسان النهضة. ورغم أن قراءة الواقع وتحليله قد تم بصورة أو أخري في مشروعات عديدة مطروحة علي الساحة, غير أن هناك مشكلات تحول بين رؤية الواقع بشكل موضوعي وبين بعض العاملين علي النهضة تؤدي الي ضياع أوقات وجهود طويلة. إن تحليل الواقع بشكل علمي جزء أساسي من شروط النهضة, لذلك,فإن وجود دراسات حقيقية ومراكز معلومات علمية تدعم العاملين والقائمين علي نهضة بلادهم هو الضمانة الحقيقية بألا تحيد النهضة عن الواقع والمستقبل. المزيد من مقالات د.ياسر على