لم يخطر في بال الدكتور محمود أحمد حمودة الأزعر, أن القدر الذي جعل منه أول طالب سيناوي يلتحق بكلية الصيدلة بجامعة القاهرة عام1958 هو نفس القدر الذي سيسجل اسمه علي رأس قائمة الأبطال الذين أعادوا صياغة تاريخ سيناء عقب هزيمة.1967.رحلته بدأت مع أولي خطواته لحفظ القرآن الكريم في كتاب الشيخ حمدان الرطيل, واستمرت حتي تكليفه بالعمل في الصحة المدرسية بسيناء عام1965 ثم الغاء التكليف بقرار من المحافظ بغرض انشاء أول صيدلية خاصة بالعريش عام1966. عقب هزيمة1967, أصبحت صيدلية ابن سيناء التي تقع في شارع23 يوليو مكانا لاجتماعات الأحرار من ابناء سيناء, لدراسة مايمكن عمله من اجل تحرير الأرض والعرض, وكانت البداية تلقائية كما يقول الدكتور محمود حيث تكونت مجموعة تعمل علي كتابة المنشورات ضد الاحتلال, لرفع الروح المعنوية للمواطنين, إلا أنها تفككت بعد فترة عمل قصيرة بسبب ملاحقة قوات الاحتلال لأفرادها. الصيدلي الذي اشتهر بين الجميع بالخلق الرفيع والتواضع لدرجة الخجل.. كان قليل الكلام كثير النشاط في نفس الوقت, وهذا مادفع مندوبا أتي من القاهرة ليطلب منه التعاون مع القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية لجمع المعلومات عن قوات الاحتلال الاسرائيلي وكان ذلك ضروريا كما يقول الدكتور حيث امتلأت جنبات سيناء بجماعات نضالية غير منظمة, فأرادت القيادة المصرية تحقيق نوع من السيطرة لتعظيم نتائج العمليات ضد الاحتلال. خريطة سري للغاية في البداية شارك الدكتور في أكثر من عملية لاجلاء الجنود المصريين الذين تاهوا في الصحراء وتوصيلهم بأمان للضفة الأخري من القناة, ثم بدأ في تنفيذ بعض المهام الكبيرة في جمع المعلومات عن أعداد جنود الاحتلال والمعدات الحربية وأعدادها, واتجاهات التحرك وأماكن التواجد, ثم خطط بذكاء لاختطاف أحد العملاء بالعريش وتسليمه للقوات المصرية غرب القناة وتوالت التكليفات حتي تمكن الدكتور من احضار خريطة أعدتها اسرائيل لحدودها الغربية في سيناء, بعد أن سافر إلي القدس وعاونه أحد الأشقاء الفلسطينيين من عرب خان يونس, وكانت الخريطة تشير كما يقول إلي أن حدود اسرائيل المستقبلية تمتد من العريش شمالا حتي رأس محمد جنوبا. 6 حقن و12 كبسولة! مازال الدكتور علي عادته, يتأمل كثيرا ويتكلم قليلا, وفي كل الأحوال يستمع باهتمام.. وفي صباح الخميس4 أكتوبر1973 دخل الصيدلية أحد المرضي يحمل روشتة سلمها للدكتور, الذي انشغل بقراءتها حتي بدت الجدية علي ملامحه, وقضي وقتا غير قصير بحجة تفسير ما فيها, رغم أنها لم تكن تحتوي إلا علي تركيبة لنوعين فقط من الأدوية هما6 حقن فيتامين ب المركب و12 كبسولة مضاد حيوي كلورو ما ليستين, وكان هناك خط صغير تحت رقم6 وحرف ب ورقم12 وفهم الدكتور الشفرة, وهي أن الهدف126 ب قد تقرر تدميره.. فسأل المريض.. متي تريد هذا الدواء فأجاب أمام رواد الصيدلية ومنهم جندي اسرائيلي.. الليلة ومرت عدة دقائق قبل أن يوميء برأسه بما يفيد الموافقة. ولم يكن الهدف126 ب سوي محطة محولات كهربائية تشتمل علي3 محولات ضخمة, وتكمن أهميتها في أنها تمد معسكرات الجيش الاسرائيلي, ومخازن الأطعمة بالتيار الكهربائي, كما يعتمد عليها مركز التصنت الاسرائيلي علي ساحل البحر بالعريش بما يضمه من أجهزة الكترونية حديثة تسمح لجنود الاحتلال بالاستماع إلي الإشارات المتبادلة بين وحدات الجيش المصري علي الجبهة وقياداتها. المخبأ السري خلف رفوف الأدوية, وداخل مخبأ سري تم بناؤه بعناية فائقة ترقد المفجرات والأقلام الزمنية إلي جوار العقاقير في كراتين كبيرة يتم استخدامها في تجهيز العبوات الناسفة في منزل عبدالحميد الخليلي أحد أبطال المجموعة ثم يجري نقلها في وضح النهار إلي حيث الهدف, وفي الوقت المحدد قام محمد عبدالغني السيد وعدنان شهاب البراوي بالإجهاز علي الحراس الاسرائيليين الثلاثة وفي الحادية عشرة مساء ارتجت سماء العريش وأضاء ليلها علي انفجار مروع, اختفت علي إثره المحطة من الوجود. أما في يوم7 أكتوبر1973, فقد أقدمت المجموعة علي نسف كوبري السكة الحديد الممتدد من اسرائيل إلي الجبهة في سيناء, حيث تم وضع6 عبوات شديدة الانفجار تحت الدعائم الخرسانية للكوبري الذي انفجرت أركانه في الثامنة والنصف مساء. وبينما كان الجيش الاسرائيلي يواجه موجات العبور علي شاطيء قناة السويس, كانت العمليات التي ينفذها الأبطال خلف الخطوط بفدائية لامثيل لها تصيبه بالهلع, وكأنها طعنات سامة في ظهره داخل سيناء حيث تتجمع شرايين الاتصالات بين القادة والجنود, حيث قامت المجموعة التي تضم إلي جانب الدكتور محمود الحاج صباح الكاشف وعبدالحميد الخليلي وسعد جلبانه وعدنان شهاب ومحمود العزازي, بنسف كابل الاتصالات السلكية الرئيسي في أربع مناطق متباعدة حتي يتعثر اصلاحه. وفوجئت قوات الحتلال التي فقدت توازنها علي الجبهة في الأيام الثلاثة الأولي من حرب أكتوبر, بانقطاع الامدادات وفقد الاتصالات واظلام مراكز القيادة. الأبطال الحقيقيون لايتحدثون عن بطولاتهم, ورغم مرور37 عاما علي انتهاء حرب1973, فإن بعض التفاصيل التي تم إلقاء الضوء عليها في الصحافة الاسرائيلية والمؤلفات العربية والأجنبية لايمكن انكارها. ففي مساء7 اكتوبر تلقت أجهزة المخابرات المصرية برقية من أحد المراكز في خان يونس تشير إلي مرور قافلة عسكرية اسرائيلية مكونة من كتيبة مشاة ميكانيكي, وكتيبة مدفعية ميدان, وكتيبة مشاهد مدرعة وسريتي دبابات خفيفةAMX و3 سرايا شيرمان م.500.. وفي الواحدة والنصف من صباح8 أكتوبر وردت للأجهزة برقية مشفرة, من مركز آخر بالعريش تفيد بمرور سرية الدبابات الخفيفة وبعد5 ساعات أفاد مركز ثالث علي مسافة60 كم من الجبهة في المحور الأوسط بمرور كتيبتي المشاة ومدفعية الميدان, أما الدبابات فلا أثر لها.. وهنا صدرت الأوامر لسلاح الطيران المصري للبحث عن سريتي الدبابات وكتيبة المشاهد المدرعة, ودهش الطيارون لأن الأوامر تضمنت أعداد الدبابات وأنواعها بالتحديد, وعندما عثرت أفواج الطائرات السوخوي المصرية علي الأهداف قضت عليها في معركة قصيرة وهو ما أكده كتاب المفاجأة الذي أعده ضابط المخابرات المصري ماهر عبد الحميد حول بطولة مراكز الاستخبارات التي يديرها أبناء سيناء خلف خطوط العدو. في الغرفة السرية داخل صيدلية ابن سيناء, يتظاهر الدكتور بتجهيز الدواء للمرضي, بينما زميل له في المجموعة يجلس خلف الجدران حيث مركز الاتصالات ليرسل عبر اللاسلكي المعلومات الي القيادة المصرية... وربما لا يعلم أحد, وهذا السر ينشر لأول مرة, فقد تلقت المخابرات المصرية أول المعلومات عن حجم الامدادات الأمريكية المباشرة للقوات الإسرائيلية داخل سيناء حيث تضمنت البرقية الأولي لمركز الاتصالات بالصيدلية خبرا عن أعداد هائلة من طائرات الهليوكوبتر البيضاء القادمة من جهة البحر لتهبط في مطار العريش لتكتشف أجهزة المخابرات المصرية صحة الإشارة بعد حصولها علي معلومات إضافية من مراكز أخري, وهو ما أكد مشاركة الأسطول السادس الأمريكي في الحرب. ليلة القبض علي المجموعة في سادس أيام الحرب, نقلت المجموعة مركز اتصالاتها من الصيدلية الي منزل آخر بنفس الشارع, حيث تم اخفاء جهاز اللاسلكي في تجويف بأحد الجدران, وجهاز آخر صغير تم وضعه أسفل السور الخارجي للمنزل. وتمكنت القوات الإسرائيلية من معرفة مكانهما في مساء الخميس8 نوفمبر1973, بعد وقف القتال بأسبوعين, وفوجيء الدكتور بضباط المخابرات الاسرائيلية يقتحمون الصيدلية في مساء الأحد11 نوفمبر ليلقوا القبض عليه واقتياده الي سجن غزة, بعد أن تعرفوا علي جميع أفراد المجموعة.. الجميع تعرضوا للتعذيب بالماء والكهرباء, حتي صدرت ضدهم لائحة الاتهام التي تتضمن توجيه تهم التجسس الخطير وجمع المعلومات السرية في سيناء وحيازة مواد متفجرة وألغام والاتصال بضابط المخابرات المصري محمد اليماني الذي أذاق جيش الاحتلال طعم المرارة, ولم يعثروا عليه أبدا وقضت المحكمة الاسرائيلية بعقوبة السجن المؤبد علي الدكتور وزملائه. رسالة من داخل المربعاة ذهبت للحاج محمود أبو عيطة في منزله بالمساعيد حيث عرفت أنه أحد المناضلين الذين تعرضوا للسجن عدة مرات, التقي في إحداها بالدكتور محمود, فأكد لي أنه عندما اشتد عليه التعذيب بعد أن اتهم بتفجير أتوبيس اسرائيلي وقتل4 جنود, ثم نقله الي مكان داخل السجن يطلق عليه اسم المربعاه والتي يحتجز بها السجين الذي يوشك علي الموت بسبب التعذيب وأضاف: عندما ألقاني الجندي الاسرائيلي علي سرير وأفقت من الغيبوبة فوجئت بشخص يرقد علي سرير مجاور فلم أحدثه حتي قال لي هل أنت من العريش فقلت نعم فقال لي أنا الدكتور محمود الأزعر, وكانت تبدو عليه آثار التعذيب الشديدة, يقول الحاج أبو عيطة, كنت أسمع عنه ولكنني لم أره من قبل حتي طلب مني أن أبلغ جميل الأزعر برسالة شفوية... حاولت أن أعرف مضمون الرسالة لكنه رفض كما رفض الدكتور من قبل أن يتكلم بشأنها ولكنني فهمت أنها تتعلق بالعمل الفدائي فزاد إكباري للرجلين. المارد المصري السيناوي والد الصيدلي بهاء الدين والمهندس تهامي والصيدلي محمد الهادي وإلهام وإيمان مدرسة اللغة الانجليزية, عاد الي وطنه في صفقة لتبادل الأسري, وأصر الرئيس أنور السادات الذي منحه نوط الامتياز من الطبقة الأولي علي أن تتضمن القائمة الأولي للأسري المفرج عنهم64 بطلا من سيناء من بينهم الدكتور محمود حمودة الأزعر الذي يعيش بيننا, رمزا للبطولة والفداء دون انتظار المقابل, ليلقن الأجيال الجديدة دروسا في الوطنية وكيفية الحفاظ علي الأرض, التي رسم الأجداد حدودها بأشلائهم.