ارتكبت جريمة يا سادتي وأنا أظن أنني أحسن صنعا. سوف أحارب الخجل من نفسي وأنا أحكي لكم هذا: ذهبت آخذ دروسا علي العود في معهد قديم لتعليم الموسيقي بالقاهرة. نصف ساعة في كل مساء تقريبا التقي فيها المدرس الطيب, يلعب أمامي مقطوعة صغيرة أصورها فيديو بالموبايل لأعرف أماكن الأصابع, وأعود إلي البيت أتمرن عليها لأعزفها أمامه في اللقاء التالي. مع الوقت, نشأ بيني وبين هذا الأستاذ نوع من المودة إلي جانب الاحترام المتبادل. ولما عرف أنني فنان أرسم اللوحات, حكي لي بأسلوب درامي مؤثر أنه عندما زار لندن قبل ثلاثين عاما, وكان يمشي ذات يوم لابسا معطفه, وفاردا مظلة المطر الذي كان ينهمر, توقف أمام محل لبيع اللوحات لأن لوحة جذبته, فتسمر أمامها وغاب عن الدنيا مدة ساعتين مسحورا بروعتها وموضوعها الذي كاد يسيل الدمع من عينيه. كانت اللوحة تصور طفلا جميل الوجه, كملاك من السماء, يبكي في الظلام. وأنه لم يستطع أن يذهب دون أن يشتري اللوحة, فدخل المحل ودفع كل ما في جيبه وعاد بها. وحتي الآن, ورغم أن الزمن وسرطان الرطوبة ضربا سطح اللوحة بالتشققات والتهرؤ في بعض الأماكن, مازال لهذه القطعة الفنية أثرها عليه كما في أول مرة رآها, بل إن قيمتها بالنسبة له تزيد بمرور السنين والأيام عليها. وسألني إن كنت أستطيع أن أرمم تلك الشقوق والبقع المهترئة. قلت له لا بد أن أراها أولا لأقرر إن كنت أستطيع. وجاء بها في اليوم التالي. كانت نسخة فوتوغرافية رخيصة للوحة التجارية المعروفة باسم الطفل الباكي, ملصوقة علي قطعة من الورق المقوي. وهنا يجب أن أذكر أن هناك أكثر من لوحة لنفس الموضوع بأشكال متفاوتة التناول والصنعة, وكان بنسخته تلك حرفية عالية, وفيها شيء من الجمال, رغم سذاجته, قلت له إن ترميمها مسألة بسيطة, وأنني سأنتزع قشرة الصورة الفوتوغرافية التي انفصلت عن الكرتون في بعض الأماكن بالفعل, وسوف ألصقها علي قطعة من الخشب الرقيق وأقوم بمعالجتها. كان قد صدم قليلا لما عرف أنها نسخة فوتوغرافية وليست الأصل, ولكن بدا أنه تخطي خيبة الأمل هذه بعد دقائق, وكأن القيمة الرمزية لذكرياته مع الصورة طفت علي ماء اعتقاده الآسن بأصالتها. أما أنا, فقد طغت فكرة أن أجعل هذا الرجل سعيدا بإعادة الحياة لطفله الباكي علي قرفي من النظر في تلك اللوحة المبتذلة, ناهيك عن العمل والتحديق فيها لبضع ساعات. وضعت اللوحة تحت دش ساخن فانفصل سطحها عن الكرتون, ثم لصقتها علي قطعة الخشب, واستعنت بصديقي وجاري في المرسم, وهو فنان يمتلك صبرا ومهارة في رسم التفاصيل الدقيقة أفتقدهما. بدأنا العملية الجراحية معا ونحن غارقان في الضحك. وسحبنا هذا الضحك الساخر والمغرور إلي أرض معارفنا وأساليبنا الفنية, ونسينا أننا نرمم لوحة: بلمسة منه هنا لإحياء اللون الباهت لياقة قميص الطفل, ولمسة مني هناك علي الخلفية الجرباء المظلمة, بدأت اللوحة تهمس لنا أكثر بما تريد... ورويدا, انقشع ظلام الخلفية وتحول إلي مساحة بنفسجية بديعة المنظر, واختفت خطوط ركيكة, وظهرت أخري بحسابات أعلي... حتي كادت اللوحة أن تكون واحدة من بورتريهات ماليفيتش البديعة التي رسمها بعدما تحول عن التجريد الهندسي إلي التشخيص. لم ينج من هذه المجزرة إلا الدمعة المتدحرجة علي خد الطفل. وانتهينا نحن سعيدين بتحويلنا ذلك الابتذال إلي فن رفيع. وكنت أتخيل سعادة صاحب اللوحة وهو يري الطفل في ثوبه الجديد, واللوحة التافهة وقد أصبحت عملا ذا شأن. لكنني فجأة وأنا في الطريق إليه أحمل اللوحة, ساورتني الشكوك: ماذا لو لم يعجبه ما فعلته؟ وحتي لو أعجبه, هل كان من حقي أن أفعل ما فعلت دون موافقته؟ يا لها من ورطة! لم يعد ممكنا إزالة طبقة الألوان التي غطينا بها الصورة, لكن يمكن طبعا إعادة ظلام الخلفية القديمة والتفاصيل الأخري التي لعبنا فيها بشكل لن يشعره بحدوث أي تغيير. رتبت ذهني وقررت, وأنا بعد في الطريق إليه, أن أمهد أولا قبل أن أفاجئه, وأن أخبره مسبقا أنها لو لم تعجبه سأعيدها كما كانت تماما. وصلت قبله كالعادة. وضعت اللوحة علي البيانو في إحدي الغرف, وانتظرت حتي جاء. سلم بطيبته المعهودة, وأخبرته بأن اللوحة تنتظره في غرفة البيانو, وكيف أنني نفخت فيها الحياة, ومزجت القديم بالجديد حتي أصبحت عملا فنيا رائعا... إلي آخره من تبريرات أجبرني عليها تهوري وحماقتي. كان توجسه يزداد مع كل كلمة أنطقها. دخلنا الغرفة, ونزعت الغطاء عن اللوحة, وتهاوي الرجل ببطء علي الكرسي كمن خارت قواه من أثر ضربة قوية علي رأسه. في هذه اللحظة فقط, أدركت أن الطفل الباكي لم يكن ذلك المرسوم في الصورة وإنما هو هذا الرجل الضخم أمامي, مدرس العود. جريمة ما ارتكبت وليست فقط حماقة. بفرشاة متهورة تدعي أنها امتلكت أسرار الفن محوت بضربة واحدة عالما من الحلم والحنين يعشش في أعماق رجل طيب. بدا بعيدا لا يسمعني وأنا أسارع بطمأنته أن لوحته ستعود كما كانت بالضبط. يعني ممكن تشيل الألوان دي بمحلول وترجع السطح الأصلي؟. مش هاكذب عليك يا دكتور, ده مش ممكن, ولكني هالونها لك زي ما كانت بالظبط... انت نفسك مش هتحس بأي فرق. طب والإمضاء؟ز.