قلنا في الماضي إن سبب مشاكل مصر وتأخرها عن ركب الحضارة هو الاستعمار البريطاني والقصر والملك الفاسد, ثم قلنا إن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وراء كل المصائب وجرنا في مغامرات لا قبل لنا بها, ثم قلنا إن السادات خرب البلد وسحق الطبقات الفقيرة بسياسة الانفتاح الاقتصادي, وقلنا إن مبارك دمر مصر ونهب أموالها واستنزف مواردها لمصلحة أسرته وزبانيته. وقد يكون في كل أو بعض ذلك نصيب كبير من الصحة لكنه علينا أن نقر ونعترف بأن العيب الحقيقي فينا نحن وكفانا تعليق عجزنا وفشلنا وتخلفنا علي شماعة الحاكم الظالم, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أننا كثيرا ما صفقنا لكل هؤلاء الحكام دون استثناء حين كانوا يتربعون فوق قمة السلطة. علينا أن نعترف بأن سبب تأخرنا يكمن بداخلنا قبل أن يكون ناتجا عن سياسات من حكمونا ومارسوا الديكتاتورية والقمع. وأقاموا صرح دولة بوليسية أسهمت خلال الحقبة الأخيرة في مسخ عبقرية الشخصية المصرية التاريخية. لكن واقع الأمر أنه لن يفيدنا رئيس جديد ولا مشروع نهضة ولا برامج ولا خطط خمسية ولا عشرية ولا أعظم النوايا الحسنة. ما يلزمنا هو مراجعة شاملة لمكونات الشخصية المصرية وإعادة العقل والضمير إلي قلب المنظومة الاجتماعية والتخلص ممن ساهموا بنصيب الأسد في تخريب عقولنا من خلال الخرافات والخزعبلات. ولعل الخطيئة الكبري لرؤسائنا أنهم تركوا الأفاقين والمنافقين لعشرات السنين يعبثون بعقول الناس باسم الدين. لقد أصيب مجتمعنا بمجموعة من الأمراض والعقد المستعصية قد تجعل مؤسس علم النفس الشهير فرويد يصاب بالاكتئاب ويضرب أخماسا في أسداس لو كتب له أن يبعث ويعيش بيننا. أدرك أن ثقافتنا الحالية تنفر من الحقيقة العارية وتستنكف المكاشفة والإقرار بالواقع عندما يكون صادما أو مريرا. لكنه لا سبيل إلي أي تقدم إلا بعلاج الداء من الجذور والتخلص من الشوائب والرواسب التي علقت بالشخصية المصرية علي كل المستويات. وإذا حاولنا القيام بعملية تشريح سريع للمجتمع نجد أنه قد ترعرعت في داخل الكثيرين نزعات عدوانية كامنة نتيجة الكبت والقهر وهي نزعات تجد متنفسا في الأطراف الضعيفة بالمجتمع مثل المرأة والأطفال والفقراء والمغلوبين علي أمرهم, وأصبحت الكلمات والشعارت بدائل عن العمل والأفعال والأخلاق. فيكفي ان يؤدي المرء الصلاة في مواقيتها ويصوم رمضان ويحج إلي بيت الله الحرام ثم يستحل لنفسه بعد ذلك كل الرذائل والمظالم, وكأنه أدي ما عليه لله, وأنه علي الله سبحانه وتعالي أن يتركه يفعل بعد ذلك ما يشاء. ونحن لا نكف عن الحديث عن الدين وعن ذكر الله والرسول. لكن ديننا دين الرحمة ومجتمعنا أصبح مجتمع القسوة. ديننا دين الوسطية وصرنا مجتمع الغلو. ديننا دين المساواة وتحولنا إلي مجتمع التفرقة. ديننا دين العدل وأصبحنا مجتمعا يقهر فيه القوي الضعيف. وهذا المقال ليس بالتأكيد إدانة لشعب مصر العظيم الذي أفتخر بالانتماء إليه والذي تفجرت علي يديه ينابيع الحضارة الإنسانية في فجر التاريخ, لكنه إدانة للجيل الحالي أو لجيلين عاشا تحت مظلة منظومة تعليمية وإعلامية ودعائية عمدت إلي تغييب العقول وتزييف الواقع وإلباس الباطل ثوب الحق. ولو حاولت تشخيص الحالة فلا أدري من أين أبدأ.. أأبدأ بغريزة التحايل والالتفاف حول القانون التي أصبحت تحكم العقلية المصرية ويمارسها كبار المسئولين وصغار الموظفين وكل طبقات الشعب المصري بصورة أو بأخري؟ أأبدأ بالغش والتدليس في معظم المعاملات التجارية وحقن الدواجن من أجل تسمينها ومعالجة الخضر والفاكهة بالكيماويات الضارة بالإنسان؟ أأبدأ بغياب الجدية والانضباط في العمل وعدم الوفاء بالكلمة والتهرب من كل الالتزامات؟ أأبدأ بالغوغائية ورفض الحوار والاستهزاء برأي الآخرين؟ أأبدأ بصور التطرف والعنف ونزعات التخريب والانتقام التي لم يعرفها الشعب المصري. لقد زرعنا بذور التطرف والحقد والكراهية والتفرقة بين المواطنين. اتهمنا أهل سيناء بالعمالة والنوبيين بعدم الولاء والأقباط بالاستقواء بالغرب والحقد علي الإسلام كما خلقنا مناخا من التنابذ وعدم الثقة مع جيراننا العرب الذين كانوا يعشقون مصر ويعتبرونها مثلهم الأعلي. علينا ألا نرهق أنفسنا في البحث والتفلسف.. فتفسير المحنة التي تعيشها مصر الآن يكمن في داخل كل منا. لكن الشعب الذي قام بثورة25 يناير ضد الظلم والطغيان قادر علي أن يقوم بثورة إصلاحية علي نفسه. المزيد من مقالات شريف الشوباشي