قتيلان لم يربط بينهما أى رابط سوى أنهما يقتربان من الثمانين من العمر، كما تطابقا المصير المفجع بالموت قتلا، الأول كان شيخا مسنا فى بولاق الدكرور مات على يد زوجة ابنه التى اصطحبته إلى بيت أهلها بعد حبس ابنه فى إحدى القضايا، بينما الثانية جدة رؤوم مازالت ترعى حفيدين غاب أبوهما فى العمل بالخارج، وقتلها أحد هذين الحفيدين فى شقتهم فى مصر الجديدة، لأنها رفضت أن تمنحه مالا زائدا عن حاجته بسبب سوء سلوكه وإدمانه. صاحب الواقعة الأولى لم يكد يتم الثمانين حتى تكالبت عليه الحياة بمتاعبها بعد رحلة عمر طويلة، لم يجن منها شيئا سوى المرارة، ربما تمنى الموت عندما أخبروه بأن ابنه تم ضبطه فى جريمة تزوير، فكانت صدمة «الحاج زاهر» أقوى من كل دروس الصبر والتحمل، فلم تعد هناك طاقة لا فى الجسم ولا فى القلب لمزيد من المرارة. تلفت فى الفراغ المميت حوله، عسى أن يجد متكئا لرأسه وخارت قواه فمد يده ليستند الى أى شيء، لكنه لم يجد سوى «إيمان» زوجة ابنه المحبوس التى لم تجاوز الثالثة والعشرين من العمر. «عيب يا إيمان أن تتركى هذا الرجل وحيدا، إن «حماك» فى أرذل العمر، فكيف تتركينه وقد دهمه المرض وأوغلت فيه الشيخوخة بكل شراستها.. كل ما تقدميه فى ميزان حسناتك فى الآخرة وسيرفعك فى عيون الدنيا». وها هى إيمان قد تحزم حقائبها وتمضى لبيت أهلها، تجر وراءها الشيخ الواهن، لكنها لم تتحمل خدمته، خاصة بعد أن ثقل جسمه وبدأ مرحلة جديدة من المتاعب ستطول به مع أعراض مرض الزهايمر وتمكن العجز من حركته. «هناك من يلقون آباءهم فى بيوت المسنين وهناك من يتركونهم يموتون فى وحدتهم حتى يبلغهم الجيران بأن رائحة كريهة تنبعث من بيت أبيهم الذى تركوه، كل يوم فى الجرائد وعلى شاشات التليفزيون نرى ونسمع بمن أهملوا لحمهم الحي، وهذا ليس من لحمك ولا من دمك، حتى ابنه لم يحسب حسابا لخاتمة أبيه، فما عليك أنت؟!». وسوسة من الشيطان تطبق على صدرها، فلم تعد تطيق نداء الرجل للمساعدة فى أى شيء وهيأ لها وكأنه يضيق عليها حياتها متعمدا مع مظاهر خرف الشيخوخة، فكان قرارها التخلص منه!. هكذا.. ولما لا.. أليس الموت راحة له قبل أن يكون راحة لها؟! وما كادت تسمع صوته حتى أمسكت بآلة حادة لتضرب بها شرايين يده ولكنها تصورت مصيرها لو قتلته، فربطت جرحه وندمت، لكنها سرعان ما ندمت على ندمها عندما خنقها الغيظ وهى تسمع استغاثاته، فأمسكت برأسه وضربته بكل عزمها فى الحائط ولم تتركه إلا وقد مات، ثم ذهبت بكل ثقة لتبلغ بنفسها بأنه سقط فجأة على الأرض فمات بسبب وهنه، لم يصدقها مفتش صحة بولاق الدكرور وأبلغ بالحادث حيث أمر اللواء علاء سليم مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن العام بتشكيل فريق بحث لسرعة كشف غموض الحادث. ليتوصل رجال المباحث إلى حقيقة ما حدث وتعترف إيمان بجريمتها بعد أن تمكن العميد أسامة عبد الفتاح رئيس مباحث قطاع غرب الجيزة من القبض عليها وأقررت فى التحقيقات أمام اللواء رضا العمدة مدير الإدرة العامة لمباحث الجيزة ونائبه اللواء محمد عبد التواب، بجريمتها. أما القتيلة الأخرى فقررت أن تمارس أمومتها حتى اللحظة الأخيرة، فلم تكن تشكو من عناء رحلتها من المرج، حيث بيتها، لتمكث مع حفيديها اللذين يسكنان شقة والدهما المسافر للخارج للعمل وتركهما فى رعاية والدته التى تأبى أن تقضى ما تبقى من عمرها حبيسة جدران بيتها لتحمل وحدها مسئولية تربية حفيديها فأزاحت هم القيام بمسئولية الإشراف على حياتهما عن الأب، مع أنهما مازالا فى شرخ الشباب بما يعنيه من متاعب لهما ولغيرهما، خاصة أن أحدهما انحرف عن الطريق واتبع السبيل الأسوأ، فأدمن المخدرات، فكان قرارها أن تتحكم فيما يرسله والدهما من نقود لعلها تصلح ما أفسده المال فى الحفيد المنحرف، لكنه تجاسر عليها فكان يتشاجر معها فى كل مرة يطلب فيها مالا يزيد على حاجته، وقرر تحت وطأة حاجته للكيف، أن يقتلها فكتم أنفاسها عند خلودها للنوم فى غرفتها بشقتهم ولما تيقن من موتها نزع حليها وأخذ 400 جنيه كانت معها، فلم تحتفظ بمبالغ كبيرة ليقينها بسوء خلقه. وبكل هدوء حمل الحفيد جثة جدته بعد منتصف الليل ووضعها فى حقيبة واستقل أول تاكسى يمر من تحت بيتهم بمصر الجديدة وطلب توصيله إلى المطرية وفى ميدان ابن الحكم لمح كومة قمامة، فطلب من السائق التوقف ليلقى بالحقيبة التى وضعها فى كيس قمامة بحسبها مخلفات يريد التخلص منها، لكنه لم يكن يدرك أن كاميرات بالشارع ترصد كل حركة مريبة وهى الكاميرات التى فحصتها أجهزة الأمن بالقاهرة بعد العثور على جثة السيدة التى سرعان ما تم التعرف عليها بمراجعة بلاغات الغياب، حيث كانت ابنتها بالمرج قد أبلغت بغيابها، بينما كان العثور على جثتها حدثا مزلزلا فى دائرة قسم الزيتون وتمكن ضباط المباحث من حل لغز الجريمة بعد التوصل لسائق التاكسى ورغم صعوبة تحديد الشخص الذى وصفه السائق، إلا أنهم تمكنوا من تحديده عقب خطة البحث التى تابعها اللواء محمود السبيلى مساعد مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية بقطاع الأمن العام، حيث كانت الجريمة قد بثت الرعب فى حى الزيتون عقب العثور على الجثة وقد اعترف القاتل بجريمته وقررت النيابة حبسه.