«إنه ناى حزين.. يستعرض الأشجان والألوان.. الأنين والحنين.. يقدم أوراق اعتماده المقبولة إلى مملكة الشعر.. يبكى بغير دموع ويتدفق بغير شواطئ فلا يوقفه نحو ولا صرف ولا عامية ولا فصحي.. ينظم ألمه وحلمه وموسيقاه».. يقول: «أنا الإنسان الفنان والشاعر.. أنا الحزن يمتد كالدنيا بلا آخر.. أنا المطعون أنا المجروح فى قلبى أنا المتمرد الثائر.. أنا المتعذب المتألم الساخر.. وأنا أصدق هذا».. بهذه الكلمات قدمه الراحل أنيس منصور لقراء عموده الصحفى «مواقف»، ثم بعد عدة سنوات التقاه فى أحد المحال التجارية فقال له فى وجهه: «الله يخرب بيتك» وانفجر ضاحكا، وكان هذا رده على مباغتة الشاعر الشاب لأنيس الذى أخذ مبادرة التعارف بعيدا عن دواوين الشعر قائلا: «أستاذ أنيس أنا عبد العزيز جويدة». عبد العزيز جويدة من مواليد حوش عيسى بالبحيرة، حصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة الاسكندرية فى 1983، اكتشف موهبته شقيقه الشاعر الكبير فاروق جويدة، لكنه طلب منه أن يغير اسمه، للتشابه بين اسميهما، واستجاب عبد العزيز، ومنحه فاروق مساحة على صفحة كتابات جديدة بالأهرام، ونشر الشاعر الشاب قصيدته الأولى بتوقيع عبد العزيز محمد بدلا من عبد العزيز جويدة، لكنه بعد فترة تمرد على الاسم الجديد الذى لم يحبه، وعاد ليوقع أشعاره باسمه عبد العزيز جويدة، وأصدر ديوانه الأول «لا تعشقينى» فى عام 1992، أتبعه ب13 ديوانا شعريا، ترشح منهم ديوانه «حيث تكونين قلبى يكون» لجائزة الدولة التشجيعية. قلت: «إن النساء سواء»، ثم قلت: «ليس كل النساء سواء.. كنت أجهل هذا.. وكنت أجادل فى كبرياء».. فمن هى المرأة التى جعلت جويدة يخرج على قٌرّائه ناعتا نفسه بالجهل؟ نعم، قلت يوما «كنت أجهل هذا، وكنت أجادل فى كبرياء،وكنت أظن بأن الجداول قد تتشابه فيها المياه وأن بطون البحار العميقة قد تتشابه فيها الحياة»، لكن حقا هنالك امرأة تغير ناموس الحياة وقاموس اللغة ونظرتك إلى الأشياء تصنع فى حياتك الدهشة المستحيلة، تصنع حالتك المزاجية وتجعلك محبا للحياة بقدر حبك للذين تحبهم، لكن ما أقوله الآن يعرفه فقط الذين عرفوا الحب، لأن الحب يمنح سره فقط لمن يعتنقه، والناس قبل تذوق الحب غرباء عن أنفسهم تأكلهم الأحقاد وتعذبهم الكراهية، ذائقتهم لتمييز الأشياء مختلة، كل الأشياء عادية، وحين أحببت عرفت أن كل امرأة مدينة كاملة، فالنساء يشبهن العواصم، وستبقى المرأة سر أسرار الحياة وأمى تلك المرأة البسيطة التى حببتنى فى النساء، فقد كانت بفطرتها صانعة للسعادة رغم كل الظروف الصعبة التى تواجهها، كانت تبتسم فى وجه الألم لتمنحه بعضا من سعادتها ورضاها، والمرأة وطن. ما هى التحديات التى يواجهها الشعر الآن؟ التحديات التى يواجهها الشعر هى نتاج ما تم فى سنوات مضت تلك المآسى والحروب التى زلزلت منطقتنا العربية، كيف يواجه الشعر كل هذا الهدم وكيف يخرج الشعر من بين كل هذه الأنقاض منتصرا، لقد تم تجريف المنطقة العربية سياسيا وفكريا واقتصاديا وتلك الحالة المتردية ألقت بظلالها على الشعر أيضا، والشعر يحتاج إلى حرية الرأى والفكر وحرية الإبداع وكلما ضاقت هذه الروافد قل المدد الشعري، وقد ظهرت للشعر إمارات زائفة بدراهم معدودات وأصبح السعى ليس من أجل الشعر ولكن من أجل الجائزة ووزعت الغنائم ولم يكسب الشعر شيئا بل خسر الشعر قدسيته، لأن إمارة الشعر تحولت إلى عملية تصويت جماهيرى عرقى يتم توجيهها سياسيا حسب الأهواء السياسية التى تجتاح المنطقة العربية، ويواجه الشعر زحفا خطيرا جدا من مدعين يذكرونك بالفنان العبقرى فريد شوقى عندما أراد أن يغني، ويواجه الشعر أيضا ما وصل إليه حال اللغة العربية كتابة وقراءة فنحن أمام حالة من التدنى لم يسبق لها مثيل. ولا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، فالشعر أيضا يواجه معركة دونكيشوتية بين حراس قصيدة الشعر العمودى وقصيدة شعر التفعيلة وقصيدة النثر وكل منهم يتهم الآخر أن الذى يكتبه ليس شعرا مع أن الشعر هو أن يكتب الجميع ونترك القارئ يختار ما يناسبه فهو صاحب القرار الأخير فى الذائقة التى تكونت لديه من خلال نصوص على قدر عال من الإبداع. ويواجه الشعر صعوبات بالغة فى المطبوعات الورقية فأسعار الطبع صارت خيالية ومعدلات التوزيع شيء لا يذكر، ومعدلات الإقبال على الدواوين المطبوعة صفر لأن معظم الإنتاج لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وهنالك عشرات الفاعليات والندوات تقام، وأغلبها مبنية على مبدأ الشللية والوساطة والمحسوبية، عدد الشعراء على المنصة يفوق عدد الذين يجلسون بالقاعة والنتيجة لا شعر ولا جمهور. فى الآونة الأخيرة طفت على السطح أشعار تبدو متدنية الكلمة، فهل يحدث ذلك تحت مظلة ما يطلق عليه «الجمهور عايز كده» أم أن هناك فقرا فى الشعر الجيد؟ ليس هنالك جمهور يريد هذا ولكن هنالك من يروجون للقبح وهناك من يروج للجمال، وفى النهاية يذهب الزبد، فكم مررنا بعصور انحطاط أدبى على مر التاريخ ولم نعد نذكر منها شيئا وبقيت الفنون العظيمة شامخة لا تتغير، وقد رأيت الشباب فى معظم الندوات التى حضرتها يحتفون بالكلمة والأغنية الراقية، لأن النفس البشرية مجبولة على حب الجمال إلا إذا سقتها للقبح كرها فهذه مسئوليتك أنت. لك إنتاج غزير ومتنوع فى الشعر، لكن أشعارك لم تحظ بشهرة واسعة تستحقها داخل مصر لماذا؟ هذا هو رزقى فى الموهبة والشهرة ورزقى فى الحياة أخذت منهم ما أراد الله لي، والتاريخ إن لم ينصفنى حيا سينصفنى ميتا، لأن التاريخ إمام عادل وما قدمته من شعر لم أتكسب منه مليما واحداً ولم أتاجر بكلماتى عند أحد ولم أرغم نفسى ولو لمرة على كتابة شيء عكس ما ترغب، تلك الحرية والراحة منحتنى الكتابة بعمق واستغراق وتأمل لست متعجلا فى شيء أكتب عندما أحب وأنشر عندما أريد. بعد كل هذه السنوات التى مرت على قصيدتك «ياليتنا لم نلتق».. لمن يقولها اليوم جويدة؟ أقول يا ليتنا لم نلتق لليوم الذى رحلت فيه أمى ولليوم الذى غادر فيه أبى الحياة، وللجهل والفقر والمرض فى قريتى البعيدة المنسية ولكل من حرضوا على الكره والبغض والطائفية، ولكل من عبروا فى حياتى ولم يتركوا بها ما يكفى من الذكريات الجميلة والمواقف الإنسانية الرائعة.