ما من مرة أمسك فيها بالمصحف الشريف وأقرأ سورة (الكهف) إلا وأتوقف متأملاً عند الآية 22 منها والتي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: «سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا».. لقد حفلت سورة الكهف بزخم من الآيات والمعجزات التي تتطلب منا أن نتعمق فيها ونستوعب كل ما جاء بها من دروس وعبر، فهي تقص علينا قصة عدد من الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى وربط على قلوبهم، ولقد توفاهم الله في كهفهم «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا» (25) ثم بعثهم الله ليكونوا من آياته عجباً.. إن الله لحكمة يعلمها لم يشأ أن يفصح عن عدد هؤلاء الفتية لأن معرفة عددهم لا ينفع والجهل بعددهم لا يضر، كذلك فقد أبهم الله سبحانه وتعالى زمان ومكان وأسماء هؤلاء الفتية، وعلى حد قول الشيخ محمد متولى الشعراوى فإن الله عندما يبهم أبطال وزمان ومكان قصص القرآن فإن ذلك هو عين البيان لأصل القصة. لقد زخرت سورة الكهف بآيات ومعجزات كثيرة منها: وفاة أهل الكهف ثم بعثهم، وقصة الرجلين الذين تفاخر أحدهما على الآخر بماله وعزه ونفره فعاقبه الله على غروره وشركه بالله «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ على مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا» (42)، وقصة نبي الله موسى مع سيدنا الخضر وما اشتملت عليه من دروس وعبر ومعجزات وأسرار، وقصة ذى القرنين مع فساد يأجوج ومأجوج... إلخ.. إذن ما قيمة معرفة عدد فتية الكهف أمام هذا الزخم اللانهائى من المعجزات؟. للأسف فإننا كثيراً ما نهتم بالمظهر على حساب الجوهر وبالمعنى على حساب المبنى وبالهوامش على حساب المتون وبالتفاصيل التي لا تغنى ولا تسمن من جوع على حساب لب الموضوع وهو ما يفتح مجالاً للجدل العقيم والخلاف واللجاج، ولا مراء أن الثرثرة الجوفاء آفة تجذرت في مجتمعنا، فها هو عميد الأدب العربي دكتور طه حسين يقول: (لنبتهل إلى الله بأن يبرئنا من علة الكلام الكثير، فلعلنا إن برئنا من هذه العلة أن نجد العزاء عن آلامنا وكوارثنا في العمل الذى يزيل الآلام ويمحو الكوارث ويجلى الغمرات).. إننا نتكلم كثيراً ونعمل قليلاً، بل إن البعض قد استبدل القول بالفعل في محاولة فاشلة أو قل ساذجة لإبراء الذمة، فهم يتحدثون عن الإصلاح والتقدم والتغيير ولا يفعلون شيئاً يذكر برغم أن التقدم هو ممارسة التقدم، والإصلاح هو ممارسة الإصلاح، والتغيير ليس أن نتحدث عن تغيير كل شيء ولا نغير أنفسنا.. انظر إلى تردى أحوال المسلمين الآن بعد أن فصلوا تعسفياً بين العبادة والسلوك وتشدد بعضهم في مظاهر التدين على حساب جوهر الدين الذى يدعو إلى العلم والعمل والتقدم وإعمار الأرض، فآل حالهم إلى ما هم عليه الآن بعد أن سادوا العالم علماً وتقدماً وتنويراً يوم أن فهموا الإسلام ومقاصده فهماً صحيحاً.. لقد تقاعسوا حتى عن التصدى الجاد لمطاردة المصطلح الكريه (الإسلاموفوبيا أو صناعة التخويف من الإسلام)، والذى يروج له الغرب، فلقد آثرنا نحن المسلمين اهتمامات أخرى زادتنا ضعفاً وهواناً وأطمعت فينا أمماً تداعت علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها على حد ما أكده فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف ليتنا ننفض عن كاهلنا ثقافة الجدل فلا نغرق في تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر.