للحليب عندنا - وعند الآخرين - أنواع عدّة.. منها اللبن المخفوق، والمُبستر، والكامل الدسم، والمتوسط الدسم، ثم اللبن المنزوع دسَمُه.. وكذلك سوف تجد العقول. إنك تنظر إلى القوم اليوم فترى فيهم من هو ذا عقل تائه مشوّش مضروب كضرب اللبن، (أو البيض)، ومنهم من له عقل ( نصف نصف)؛ معقول الوزن مقبول الأحكام.. لكن فيهم أيضا من حباه الله سبحانه بعقل متزن رشيد يكاد يبلغ الكمال (ككمال دسم الحليب).. ويبدو، والله أعلم، أن هؤلاء الأخيرين باتوا هم القِلّة بيننا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وتعرف سيادتك بالتأكيد أن للخفق، أو البسترة، خلاطات ضخمة بشركات الألبان وظيفتها الخفق.. فهل ثمّة خلاطات مماثلة تُضرب فيها العقول فتشوشها وتفتت جزيئاتها لتصير خفيفة هشة لا دسم لها، ومن ثم يسهل اختراقها وإعادة تشكيلها من جديد، كما يعيدون تشكيل اللبن ليصير زبادى؟ صدق أو لا تصدق.. نعم هناك هذا النوع من الخلاطات المصنوعة بدقة متناهية لبسترتنا لنكون نحن وأبناؤنا مخفوقين. هل تريد أمثلة كى تقتنع؟.. إليك المثال التالى: كثير من شيوخنا وعلمائنا الأفاضل، الذين تربينا على فتاواهم وشروحهم لديننا، يُعاد حاليا ضرب آرائهم وتجلياتهم فى شرح القرآن والسُنّة والفقه فى خلاط عبقرى المكر، محسوب الحركات، اسمه مواقع التواصل الاجتماعى ( فيس بوك على تويتر على إنستجرام على جوجل على يوتيوب). إنك تفتح الموبايل فتفاجئك قطعة منتقاة من مقطع فيديو قديم لشيخ من هؤلاء الشيوخ فماذا أنت واجد؟ ستجد رأيا جرى على لسان الشيخ الجليل ما أنزل الله به من سلطان، ويخالف العقل، ويشكك فى قدرة الرجل على الرؤية الصحيحة لأمور الدين.. فماذا ستكون النتيجة؟ أنت حتما سيصيبك التشويش، وقد تتهم الشيخ بالتحجر، والرجعية العقلية، وعدم الفهم، وربما يصل بك الأمر إلى درجة السخرية منه، إلى أن تفقد الثقة فيه تماما، ومن ثم تكذيب كل ما قال به، أو ما قال به وسوف يقوله أمثاله من الشرّاح. فإن دعبست وبحثت عن أصل الفيديو مكتملا فسوف تكتشف أن هذا الذى رأيت وسمعت قد انتزع من سياقه، وتم ابتساره، لتصل إليك نصف المعلومة وليس المعلومة بكاملها. والوقع أن مسألة التشويش والتشويه تلك لا تتوقف عند شيوخ الدين (وإن كانوا هم الأكثر استهدافا فى هذه الأيام) بل تمتد لتشمل السياسيين صناع القرار، والاقتصاديين، والمثقفين، والأدباء، والإعلاميين، والتربويين، والنابغين من نجوم الرياضة وأرباب الفنون. إنك عندئذ سوف تسيطر على عقل حضرتك تلك الفكرة الخبيثة التى أرادها صانع الخلاط.. وهى خفق عقلك ليتحول إلى عقل منزوع الدسم، فلا تؤمن بشىء، ولا تثق فى أحد، لتكون فى نهاية المطاف هشًّا كعجينة سهلة التشكيل.. ولم لا وقد ساحت وتاهت واختلطت فى عقلك كل الثوابت لتصحو فإذا بك غير قادر على التمييز بين القشدة والماء الذى غشوا به اللبن الذى صار - ليس فقط بلا طعم ولا رائحة شهية ولا فائدة - بل أصبح ضارا جدا بالصحة أيضا.. واشرب يا معلم! العقل المنزوع الدسم هذا لا يمكنه أن ينجز مهمة، أو يتطور، أو يبدع، أو يصنع حضارة.. لنصير كلنا مجرد أجساد تمشى على قدمين والعقل فيها فارغ تافه لا جدوى منه، ولا فائدة تُرجى. والأكادة أننا ننساق إلى هذا المصير ونحن مبهورون مأخوذون كمن مسهم السحر، ويهيّأ لنا أننا أمام اكتشاف جديد، وأننا عشنا ماضيا خدّاعا حقيرا وها نحن نستعيد عافيتنا العقلية من جديد مع أن العكس هو الصحيح.. فهل هذا هو ما يسمونه حروب الجيل الرابع؟ إن العارفين بأمور التغذية ينصحونك بعدم الإسراف فى تناول الألبان منزوعة الدسم.. ويقولون إنها لا تفيد الجسم بل تحرمه من مكونات أساسية وضعها الخالق جلّ وعلا فى الحليب ليعيد بناء الخلايا التى أتلفها تناول الأغذية الضارة التى يطلقون عليها الفاست فود (والتى تسمى فى الإنجليزية جانك فود.. يعنى الطعام الخُردة أو النفاية). هل يجوز هنا النصح بالتوقف عن - أو الإقلال من - تناول المعلومات الخردة التى يغرقنا بها التواصل الاجتماعى الإلكترونى ليل نهار؟ السؤال هنا: وكيف - يا أذكى اخوتك - نميز بين المعلومات كاملة الدسم وتلك الخُردة؟ بسيطة.. إليك يا سيدى هذه القواعد الذهبية الثلاث فى التعامل مع قطعة الحديد البراقة التى بين كفيك (الموبايل) ولا تتركها إلا حين تنام (هذا إن سمحت لك قطعة الحديد بالنوم أصلا)! القاعدة الأولى: لا تصدّق. نعم قل لنفسك دائما: إن هذه المعلومة، أو الفيديو، أو البوست الذى أمامى الآن متَّهم ( وليس بريئا) حتى تثبت براءته، إذ أكم من المواد التى على الفيس أو اليوتيوب أو الإنستجرام هو خادع مغشوش، أو على الأقل ينقصه التوثيق والمصداقية والدسامة، فلماذا يا أخانا تشرب معلومة منزوعة الدسم بينما من الممكن أن تشرب لبنا كاملا نظيفا سائغا شرابه؟.. اهمس لنفسك: لا يا أحباء الفيس لن أسمح لكم بأن تخدعونى حتى لو حسنت نواياكم. والقاعدة الثانية، إن أنت وجدت نفسك قد أدمنت قطعة الحديد تلك ولم تعد قادرا على مغادرتها، فلا تكتفى بقراءة البوست، أو بمشاهدة الفيديو، وإنما اقرأ بتمعن كل التعليقات التى كتبها متابعون آخرون حتى تعرف الرأى الآخر. ثم تبقى قاعدة ثالثة: لا تأخذ المعلومة إلا من المتخصصين فيها، سواءً كانت فى الدين، أو الطب، أو التعليم، أو الصحة، أو حتى فى الطبيخ.. وساعتئذٍ ستشرب حليبا كامل الدسم فينمو لك بالتالى عقل صحيح الخلايا، كامل الدسم، غير مغشوش. لمزيد من مقالات سمير الشحات