تكشف جل مشكلات المشرق الحضارى الإسلامى عن أزمة الضمير الثقافى رغم وحدته بين العالم العربى السنى، وإيران الشيعية، حيث تجوب الأساطيل الأمريكية فى المياه الإقليمية بينهما بدعوى الدفاع عن طرف ضد الآخر، فيما تحاصر فى الحقيقة أحدهما لحسابها هى، وتقبض الثمن من الطرف الآخر. نعم توجد بعض الحساسيات التى أثارها تبنى إيران لمفهوم تصدير الثورة، الذى لا يعمل أصلا إلا فى سياق القرابة الحضارية، وقبل ذلك نمط التشيع الصفوى الذى انحرف عن التشيع العلوى، وخلط بين الدينى والقومى، ولكن يجمع بين الطرفين ما هو أهم: تراث الحضارات الكبرى الفرعونية والبابلية والفينيقية والفارسية، العقيدة الدينية، والأهم من ذلك الموقف نفسه من الحداثة الأوروبية، منذ واجهها، ولو بأقدار مختلفة، موجات الضغط الاستعمارى الغربى. وتكشف متابعة الفكر الإيرانى، خصوصا فى القرنين التاسع عشر والعشرين عن أن تياراته تكاد تكون هى نفسها تيارات الفكر العربى، والقضايا المثارة نفسها كالنهضة والحداثة والعلمنة نجدها منثورة على الضفتين يتداولها من هنا وهناك مفكرون معروفون لدى الأمتين: فهل يمكن لمثقف عربى أن يجهل جمال الدين الأفغانى، أو لمثقف إيرانى أن يجهل رفاعة الطهطاوى، أو لأى منهما أن يتجاهل محمد إقبال أو لا يتوقف عند المودودى وسيد قطب أو يتجاهل التناسب بين نواب صفوى وحسن البنا؟. بل يمكن ملاحظة التشابه الكبير بين رواد الفكر الحداثى الإيرانى مثل (مالكولم خان) وبين رواد الفكر النهضوى العربى مثل (محمد عبده)، فالاثنان يبديان ترددا كبيرا إزاء قضايا الاستنارة والعلمنة، بل إن فهم مالكولم خان يكاد لا يفترق عن مفهوم محمد عبده للمستبد العادل، فكلاهما كان يطمح إلى تحقيق النهضة، وبلوغ التقدم لمجتمعه: العربى، والإيرانى، ولكن ثقل الموروث أعجزهما عن تبنى المفاهيم الحديثة بوضوح من قبيل التنوير والعلمنة، فكانا يكتفيان بتوسيع أفق النص الإسلامى ليستوعب نوعا من العقلانية الكلية، من دون استعداد للحركة خارجه، أو ممارسة النقد التاريخى له. وثمة أيضا تشابه فى ظاهرة المفكرين الدينيين المنفتحين على الجانبين، بين مرتضى مطهرى، تلميذ الخمينى فى الحوزة الشيعية، الأكثر اعتدالا منه، الذى سعى إلى التجديد فى الفقه والكلام، داعيا إلى الاعتزال. وبين الشيخ على عبد الرازق الذى دافع من تحت عباءة الأزهر عن الدولة المدنية بحرارة، نازعا عباءة الدين عن جسد الخلافة، معتبرا إياها مجرد شكل تاريخى للحكم لم ينبع من القرآن الكريم ولا تزكيه السنة النبوية، بل صاغته الحوادث، وتوارثته العصور. كما أستطيع رؤية وجه الفيلسوف الإيرانى على شريعتى وكتابه الأيقونة (العودة على الذات) وهو ينقب عن الشخصية الإيرانية فى العصور الأكمينية، والساسانية، والصفوية، والقاجارية، مؤكدا مركزية الهوية الإسلامية المتفتحة، وداعيا إلى التلاحم مع الثقافة العربية، فى مرآة العبقرى جمال حمدان، وكتابه الأثير شخصية مصر وهو يتجول فى طبقات الحضارة: الفرعونية والقبطية، والعربية الإسلامية. بل إننى أكاد ألمح حتى ظاهرة المراجعات الفكرية التى قادت إلى تحول بعض مفكرينا عن مواقفهم الحداثية الراديكالية إلى مواقف أكثر اعتدالا فى وجوه مثقفين إيرانيين. فالمفكر القومى العلمانى، جلال آل أحمد الذى تحول إلى الموقف النقدى عبورا من الموقف التغريبى الذى هيمن عليه فى مطلع حياته، إنما يستدعى بامتياز تجربة المفكر العربى زكى نجيب محمود الذى بدأ حياته الفكرية كداعية للوضعية المنطقية، باعتبارها مدخلا وحيدا للنهضة والحداثة، قبل أن ينتقل الرجل إلى الموقف التوفيقى متخليا عن التغريب الثقافى. وهل الخمينى أكثر من تكرار ناجح لسيد قطب؟. لقد حاول الأخير أن يبنى دولة الحاكمية الإلهية، واصفا كل دولة مدنية بالجاهلية التى تعنى لديه حاكمية الإنسان، داعيا المسلمين المعاصرين إلى الخروج على تلك المدن الجاهلية كما خرج المسلمون الأوائل على الوثنية العربية، محرضا الطليعة الأكثر طهرانية على قيادة هذا الخروج مثلما خرج الصحابة الكبار على الجاهلية المكية، وذلك قبل أن تتمكن منه الدولة الناصرية. أما الخمينى فبدأ حياته (1902 1989) معتدلا ولم يتخذ المنحى الثورى فى معارضة الشاه إلا منتصف الستينيات، متأثرا بقطب. وقد نجح الرجل فى إقامة حكم ثيوقراطي، نيابة عن الإمام الثانى عشر (محمد الحسن العسكرى)، مالك الحقيقتين الروحية والسياسية، واللتين آلتا إلى الولى الفقيه خروجا من حالة الانتظار التاريخى الطويل التى قننها مفهوم (الغيبة)، وهو الانتقال الذى نظَّر له الخمينى نفسه فى كتابه (فى الحكومة الإسلامية) 1971م، قبل أن يشرع فى تطبيقه بنجاح الثورة فى فبراير 1979م. أما محمد باقر الصدر، الشيعى العراقى، فيبدو نظيرا للسنى أبى الأعلى المودودى خصوصا فى المراوحة بين النص والتاريخ لتمجيد حال وتراث المسلمين. فعندما يتحدث الصدر، كمفكر دينى، يستدعى النص القرآنى الذى يؤكد العلاقة الحرة التى تربط الإنسان بالله، وهى حرية لا شك فيها، ولكنها تبقى محض تصور أنطولوجى لم يهبط يوما إلى عالم السياسة والواقع، فالحرية ممكنة فى مواجهة الله نعم، كفرا وإيمانا، بنص القرآن الشاهق، لكنها غير متصورة فى مواجهة أى حاكم مسلم، سنى أو شيعى. وفى المقابل فهو يهدر التاريخ الذى يتحدث هو نفسه عن وقائعه ومآسيه، والذى شهد نكبات على والحسين وتفجرت فيه الكربلائيات ونبتت مؤسسة التعزية وغير ذلك من قيم وأفكار تقليدية، لا نظنها أبدا انتصرت لحرية الإنسان بالمعنى السياسى، الذى اجتهدت الحداثة الغربية فى تقنينه، من دون أن تنسب نفسها إلى المسيحية أو تدعى دورها فى الدفاع عن الأخلاق، فيما ينسب هو إهدار الأخلاق إلى المسيحية وإقامة الحرية للحداثة الغربية. إنه عين ما قام به أبو الأعلى المودودى، فهو الآخر يستدعى الإسلام من النص مثبتا سموه، وهو فى هذا محق، ولكنه يحاكم المسيحية أخلاقيا ليس بمعايير النص الإنجيلى ولكن بظواهر وممارسات الحداثة كتجربة تاريخية، وبالذات التيارات المادية فيها، وهو نزوع تلفيقى يجافى موضوعية المعرفة وحس النقد التاريخي. ومن ثم يتبدى لنا عمق أزمة الضمير الثقافى العربى الإيرانى، فى مواجهة الفكر الغربى، على نحو يشعر معه الطرفان بفقدان الجدارة التاريخية، والثقة بالذات الحضارية، ليظلا دائرين فى فلك المذهبية والطائفية، أسرى لوعى تقليدى ساذج، عاجز عن مواكبة الحداثة ودهائها الذى يحرك الأساطيل ويساوم الآخرين عليها. [email protected] لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم