شاءت الأقدار أن نصل إلى العاصمة فيينا لمتابعة اجتماعات الدورة السادسة لمنتدى «فالدى» الذى يتمتع برعاية ودعم الكرملين والأوساط الحاكمة فى روسيا، والذى كانت هيئته الإدارية للمنتدى قد قررت عقدها بالتعاون مع الأكاديمية الوطنية النمساوية للدفاع، فى توقيت مواكب لاندلاع الأزمة الحكومية وانهيار الائتلاف الحاكم فى النمسا. ولذا لم يكن غريبا أن تسارع الاكاديمية النمساوية للدفاع وقبل بضع ساعات من موعد الافتتاح، بإعلان رفضها المشاركة فى أعمال المنتدى، وسحب رعايتها، ما دفع «الضيوف» من موسكو، إلى سرعة البحث عن قاعة مناسبة فى أحد فنادق العاصمة فيينا، لعقد هذه الاجتماعات، التى جرت تحت عنوان «معا .. أم كل على حدة؟.. التحديات العالمية والدبلوماسية المتعددة الأطراف». ولعل هذا العنوان تحديدا يمكن أن يحدد ملامح ما كان مقررا من نقاش دعت اللجنة المنظمة إليه ما يقرب من المائة من أبرز خبراء السياسة والدبلوماسية من زهاء عشر دول أوروبية. ولم يكن سرا أن موسكو كانت تبتغى من هذا اللقاء بحث السبل المناسبة للحد من تبعات العقوبات الغربية والتخلص مما فُرض عليها من حصار اقتصادى منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية فى عام 2014، فضلا عن الحيلولة دون استمرار ما تصفه الأدبيات السياسية ب«التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية». ومن هنا تحولت الأنظار لتشخص بعيدا بحثا عما يربط بين هذه التطورات، ويقف وراء تصاعد ما وصفته أوساط كثيرة ب«فضيحة» سقوط هانز كريستيان شتراخيه نائب المستشار النمساوى زعيم حزب الحرية النمساوية اليمينى المتطرف فى شرك مواطنة ليتوانية من أصول روسية تدعى أليونا ماكاروفا حاولت من خلاله التدخل فى الانتخابات النمساوية. واعتمدت هذه الفضيحة على ما نشرته مجلة «دير شبيجل» وصحيفة «سايدويتشيه تسايتونج « الالمانيتين من شريط فيديو جرى تسجيله للقاء المواطنة الليتوانية، مع شتراخيه وأحد مساعديه من أعضاء البرلمان النمساوى يجيد الروسية فى إيبيزا - إحدى الجزر الاسبانية فى البحر المتوسط فى يوليو 2017. وكان شريط الفيديو يتناول تبادل الحديث حول مساعدة ماكاروفا التى قالت إنها ترتبط بصلة قرابة مع احد ممثلى الاوليجاركيا الروسية، لزعيم حزب الحرية النمساوى فى انتخابات 2017 مقابل وعود بحصولها على عقود حكومية مربحة، ومنها صفقة شراء صحيفة «كرونين تسايتونج» النمساوية واسعة الانتشار، وهو ما نشرت مجلة « ديرشبيجل» الكثير من تفاصيله. ومن الطريف ان هذه «الفضيحة»، أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد، على اعتبار أنها تدخل سافر من جانب موسكو فى الانتخابات البرلمانية النمساوية التى جرت منذ قرابة العامين، فى نفس الوقت الذى تغاضت فيه كل الأوساط السياسية المحلية والعالمية، عن تدخل الأجهزة التى وقفت وراء تسجيل هذا الشريط من جانب أوساط قالت مصادر كثيرة إنها ترتبط بالمخابرات الألمانية، وهو ما قال زعيم حزب الحرية النمساوية انه سوف يتقدم إلى القضاء لبحث مدى مشروعيته، وانتهاك حقوقه الدستورية. وهو موقف يبدو أيضا وهو يحمل كثيرا من أوجه الشبه مع ما تتهم به كثير من الدوائر الأمريكيةموسكو التى يقولون إنها تدخلت فى الانتخابات الأمريكية عام 2016، وهو ما دحضه تقرير المحقق الأمريكى الخاص روبرت موللر بعد مداولات طالت لما يقرب من العامين. وكان كثير من المراقبين فى موسكو، وكذلك فى فيينا وغيرها من العواصم الأوروبية عكفوا خلال الفترة القليلة الماضية، على تقصى حقيقة اسباب تفجير هذه الأزمة، ليخلص كثيرون منهم إلى استمرار محاولات خصوم روسيا فى الدوائر السياسية الغربية، للنيل من علاقاتها مع كثير من البلدان الأوروبية خاصة النمسا التى أقدمت على اتخاذ عدد من القرارات المستقلة، ورفضت الانصياع للضغط الأمريكى. وتوقف عدد منهم عند رفض فيينا لاستمرار العقوبات الغربية ضد موسكو وتكرار زيارت قياداتها السياسية لروسيا والعلاقة الطيبة التى تربط بين قيادات النمسا مع الرئيس بوتين الذى سبق وأصر على تلبية دعوة كارين كنايسل وزيرة الخارجية النمساوية لحضور عقد قرانها فى صيف العام الماضى. وأشاروا ايضا إلى توقيت انفجار هذه الأزمة الذى جاء مواكبا لانتخابات البرلمان الأوروبى، رغم اعتراف الجميع بان السياسة الخارجية ليست فى صدارة اهتماماته. وبغض النظر عن مدى مشروعية تسجيلات الفيديو من جانب، وفرض العقوبات من جانب آخر ، فضلا عن عبثية استمرار التلويح بمزاعم تدخل موسكو فى الانتخابات الأوروبية تارة، والأمريكية تارة أخرى، فإن ما نشهده من مفردات المشهد السياسى المحلى والعالمى يقول بما لا يدع مجالا للشك ان قضية التدخل فى الشئون الخارجية تظل دوما «الحق الذى يُراد به باطل»!!. ولعل استعراض ما ارتكبته البلدان الغربية وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة وحلفائها فى حلف الناتو من جرائم اخلاقية واعتداءات عسكرية على مدى عقود طويلة، خير دليل على ذلك. وذلك ما استعرض بعض أوجهه كثير من خبراء السياسة والدبلوماسية فى فيينا فى معرض اجتماعاتهم تحت رعاية منتدى فالداى فى دورته السادسة، التى شارك فيها من الجانب الروسى الكسندر جروشكو نائب وزير الخارجية الروسية وقسطنطين كوساتشوف رئيس لجنة الشئون الخارجية فى مجلس الاتحاد ( المجلس الاعلى للبرلمان الروسي) وتوامس جرينمينجر الامين العام لمنظمة الامن والتعاون الاوروبى وغيرهم من أبرز المتخصصين فى مجالات السياسة والعلاقات الدولية والدراسات الاقليمية.