من المعروف أن الإنسان حيوان اجتماعى بطبعه، أى أنه يميل بغريزته إلى العيش مع الآخرين. وهذه الحياة مع الآخرين لها اقتضاءتها. فهى تستلزم قوانين وقواعد أخلاقية وسلطة للمراقبة والعقاب. ولكن ذلك كان أيضا مصدرا لشقاء الإنسان وعذابه، وهكذا اتسم الشرط الإنسانى بالمفارقة، فهو لا يرضى بالعيش منفرداً، ولا يرضى بالخضوع للسلطة وللقانون. ولهذا انبرى الفلاسفة للبحث عن أفضل صيغة من الحكم تسمح بالحرية والسعادة فى ظل العيش المشترك. وأبرز هذه المحاولات فى تاريخ الفكر هى جمهورية أفلاطون وهى مدينة مثالية تصور الفيلسوف أنها تدار بطريقة كفيلة بتحقيق هذا الهدف الذى يسعى إليه الإنسان. وبعده بعشرة قرون سار الفيلسوف أبو نصر الفارابى على الدرب نفسه فى كتابه أراء أهل المدينة الفاضلة والذى يعدد لنا أنواع المدن مميزا بين عيوبها ومحاسنها، مقدما لنا فى النهاية تصوره عن المدينة المثالية. وبعده بخمسة قرون وفى الإطار نفسه نشر السياسى الإنجليزى توماس مور كتابه يوتوبيا وفيه يقدم شخصية بحار يحكى فى حوار مع صديق عن جزيرة مجهولة قادته الظروف ليتعرف على حياة سكانها والتى تسير وفق نظام وقوانين مخالفة لما تعارفنا عليه، لكنه يحقق لسكانها حياة سعيدة وهانئة. ولكن ما الجديد الذى جاء به توماس مور ولا نجده عند أفلاطون والفارابى؟ يعتبر مؤرخو الفكر أن جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابى الفاضلة هى فى جوهرها رسائل فى الفلسفة السياسية مهمومة بالبحث عن أفضل النظم لحكم البشر. أما مع توماس مور فإننا ننتقل إلى مجال الأدب، فالكتاب بمثابة قصة وعنوانه باليونانية القديمة معناه اللامكان أى أن كل التفاصيل هى من خيال المؤلف. ورأى نقاد آخرون أن الكتاب هو نقد وجههه توماس مور لنظام الحكم فى انجلترا فى عهده، ولكنه ارتدى قناع الأدب. وفى الحقيقة لا تعارض بأن يكون العمل أدبياً وفى الوقت نفسه له أغراض سياسية. ولهذا يعد توماس مور رائدا لنوع جديد من الأدب الروائى وهو أدب اليوتوبيا. والشرط الأساسى فى هذا النوع الجديد هو ألا ينساق خيال المؤلف وراء العجائبية أو العناية الإلهية أو الفانتازيا، وإنما يقدم بشراً رأت حكمتهم بأن يعيشوا بصورة تسمح للإنسان بحياة حرة سعيدة وفى انسجام مع الآخرين من حوله. ولهذا أعقب كتاب اليوتوبيا كتبا أخرى كثيرة مثل أطلانطا الجديدة لفرانسيس بيكون ومدينة الشمس لكامبانيلا ورحلات جاليفر لسويفت، بل وتخللت الرؤية اليوتوبية أعمال قصصية أخرى مثل الفصول الخاصة بالدورادو فى رواية كانديد لفولتير. واستمرت اليوتوبيا بعد ذلك عند أوين وفورييه وكابيه وجول فيرن. كل هذه الأعمال قدمت تصورات جديدة عن نظم العمل والملكية والزواج والتبادل التجارى والجريمة والعقاب تخالف ما عهدناه طوال تاريخنا من مثل هذه النظم، وبالتالى فهذه الأعمال تعد وسيلة من وسائل النقد والإصلاح. هكذا كان حال اليوتوبيا حتى جاء كارل ماركس الذى ميز بين الاشتراكية كحركة سياسية تتعامل مع العالم الواقعى من أجل تغييره وبين الاشتراكية الطوباوية التى هى عبارة عن أحلام يقظة جميلة، لكنها عاجزة عن إصلاح الواقع الفعلى. وبدأت كلمة اليوتوبيا من وقتها تكتسى بدلالات سلبية وأصبحت مرادفاً لعدم الواقعية والإسراف فى الحلم. ولكن نظرا لاستمرار معاناة البشر بل وزيادة حجم الأهوال والفظائع التى يتعرضون لها عادت اليوتوبيا تمثل لهم من جديد طريقة ملائمة للتعبير عن طموحاتهم وتصوراتهم عن العالم الذى يرغبون فى العيش فيه. فأزمة البيئة التى يعانيها الانسان بسبب الإفراط فى التصنيع واستخدام التكنولوجيا فتحت المجال لصياغة يوتوبيات جديدة تتصور طرقا جديدة للعيش فى وفاق مع الطبيعة. كما ظهر تيار جديد يسعى إلى دعم ما يسمى باليوتبيات العملية. فالبشر بلا شك يعانون فى هذا العالم ومن الطبيعى أن يأملوا فى عالم بديل. ولكن تصور أن هذا العالم الجديد سوف يأتى ليخلصنا من العالم الموجود بصورة مفاجئة وشاملة هو تصور خيالي، كى لا نقول طوباويا. اليوتوبيا العملية معناها مشروع صغير يقوم به مجموعة من الناس فيما بينهم ليبتكروا طرقا جديدة فى طعامهم أو مواصلاتهم أو تعليم أولادهم كل هذا فى داخل العالم الواقعى نفسه. ولهذا ظهر مفكرون يردون الاعتبار لليوتوبيا. فالفيلسوف النمساوى كارل مانهايم يرى أن العلم وحده يقدم تمثيلا صادقا عن الواقع، أما كل من الايديولوجيا واليوتوبيا فيقدمان تمثيلا زائفا له، الفارق هو أن الأيديولوجيا فكر يعبر عن المستفيدين من هذا الواقع والحريصين على استمراره أما اليوتوبيا فهى فكر يعبر عمن يعانونه منه ويأملون فى تغييره. والفيلسوف الألمانى أرنست بلوخ يعتقد فى كتابه مبدأ الأمل أن اليوتوبيا رصيد مهم على الإنسان أن يحرص عليه، فهى الفكر الذى يعطى الأولوية لما هو ممكن على حساب ما هو واقعى، وبالتالى تظل منهلا دائما للمتعطشين لحياة أفضل. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث