(لا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة النفس). (القلب إذا جاع وعطش صفا ورق، وإذا شبع عمى وثار). (إن العباد عملوا على أربع درجات: الخوف، والرجاء، والتعظيم، والحياء. وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء). كان أبو سليمان الدارانى من أئمة أولئك الصفوة العارفين. خاض بحار الشوق فى طلب الحقيقة حتى وصل إلى الله بقلب ليس فيه غيره، وروح لم تستعبد لسواه. عن ترجمته يقول الدكتور يحيى أبو المعاطي العباسي أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم بالقاهرة: هو عبد الرحمن بن أحمد بن عطية وكنيته أبو سليمان العنسى الدارانى، أصله من واسط. قدم إلى بغداد وأقام بها مدة، وعاد إلى الشام فأقام بداريا حتى توفي. ولد فى حدود الأربعين ومائة. التقى أبو سليمان الدارانى بصفوة من أعيان التابعين، أخذ عنهم، وتأدب بآدابهم، واقتفى آثارهم، فلقد روى عن سفيان الثورى، وعبد الواحد بن زيد، وصالح بن عبد الجليل وغيرهم. كان الدارانى من عشاق الليل الحريصين على قيامه، الناعمين بتجلياته وسبحاته، وهو يرفض كل ما يشغله عنه، فعندما طلب منه أحد أصحابه المبيت عنده قائلاً له: تبيت عندنا؟ قال: ما أحبكم تشغلونى بالنهار، وتريدون أن تشغلونى بالليل.. فنهاره تعليم لمريديه، وليله قيام بين يدى ربه.وهو مذكور رحمه الله ضمن الأربعين من التابعين الذين يصلون الغداة بوضوء العشاء. إن كل أمر لا يكون عليه أمر الله فهو مردود على عامله، فالحكم هى الشريعة، فما وافقها من الأعمال كان مقبولاً، وما خالفها رُدَّ على صاحبه، وكان الدارانى من الحريصين على أن توافق أعمالهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو يقول عن ذلك: إنه ليقع فى قلبى النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة. والنكتة هى الحكمة، فإذا سمعها من القوم الصالحين لم يأخذ بها إلا إذا شهد بصحتها الكتاب والسنة، وذلك حرصاً منه على أن توافق أعماله الشرع. وكان يحب الصوم ويكثر منه، وجعله أحد الشيئين اللذين يحب البقاء من أجلهما فى الدنيا، قال: ما أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لكرى الأنهار، وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل. لا يستطيع أى إنسان أن يتذوق العبادة وينهمك فيها ما لم يشعر بلذتها ويذوق طعمها، وما لم تحتل العبادة محل الدواء والغذاء والقوة، ويصل إلى درجة تصبح الصلاة فيها لعينه قرة ولروحه مسرة. ولننظر إلى تذوق الدارانى لعبادة قيام الليل فى قوله: (ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحة بآية واحدة أتفكر فى معانيها، والتفكر والتدبر هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب). وكان له ورد من الصلاة يؤديه كل ليلة، ولما نام عنه مرة أرسل الله له من يذكره وينبهه، قال أحمد، قال لى أبو سليمان يا أحمد: إنى محدثك بحديث فلا تحدث به حتى أموت: نمت ذات ليلة عن وردى فإذا أنا بحوراء تنبهنى وتقول: يا أبا سليمان: تنام وأنا أربى لك فى الخدور منذ خمسمائة عام. وقد تكلم الدارانى عن فضيلة المجاهدة، فقال: (لا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة النفس) والمراد بجهاد النفس: قهرها علي ما فيه رضا الله تعالي من فعل الطاعات وتجنب المخالفات، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد الأكبر: لأنه من لم يجاهد نفسه لم يمكنه جهاد العدو الخارج، وكيف يمكنه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، وما لم يجاهد نفسه على الخروج لعدوه لا يمكنه الخروج له، فجهاد العدو الخارج بالنسبة إلى جهاد العدو الباطن أصغر. والدارانى يربط بين الجوع وبين صفاء القلب وتألق نوره، ويرى أن شبع البطن يعكس على القلب الصدأ، فيظلم ولا يكون قلباً بصيراً. ويؤكد الدارانى على نفس هذا الوجه أيضاً فيقول: (القلب إذا جاع وعطش صفا ورق، وإذا شبع عمى وثار). ويجمع الدارانى آفات الشبع فى خمس فيقول: من شبع دخل عليه خمس آفات، فقد حلاوة العبادة، وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لظنه أن الخلق كلهم شباع، وثقل العبادة، وزيادة الشهوة. إن الحياء عند الدارانى هو من أشرف المنازل، ويتضح ذلك من قوله: (إن العباد عملوا على أربع درجات: الخوف، والرجاء، والتعظيم، والحياء. وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء، لما علم أن الله تعالى يراه على كل حال استحيا من حسناته أكثر مما يستحيى العاصون من سيئاتهم).