هي دعوةٌ صريحة، وأمرٌ شديدُ الوضوح، من الله تعالى، لكل الناس، في كل زمان، وفي كل مكان، بأن يتسابقوا ويتنافسوا، في فعل الخيرات، ففعل الخير أفضل عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وبخاصةٍ في هذه الأيام المباركة، من أعظم الشهور على الإطلاق، شهر رمضان الكريم. وحديثي هذا يأتي استكمالاً لمقالي السابق، في المكان نفسه، الجمعه الماضى، عن العمل وأهميته، وبذل الجهود، وزيادة الإنتاج، إذ من الممكن أن يعمل الإنسان ويجتهد، ويبقى رغم ذلك دخله أقل من حاجته، ومن ثم يكون في حاجة لمن يمد إليه يد العون والمساعدة، وهنا يتجلى المعنى العظيم لفكرة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ويصبح الأمر أكثر خطورة، مع الفقير الذي لا يعلنُ عن نفسه، تعففاً واستحياءً، وخشيةَ أن يكون كالشاكي ربه للناس. وهنا يصبح لزاماً علي المجتمع كله أن يتحرك، أفراداً، وحكومة، وقطاعا خاصا، ومنظمات مجتمع مدني، الكل يساعد الكل، في السعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية. إن هناك ثلاثة أدوار أو مسئوليات للقطاع الخاص في أي دولة، دور ومسئولية في الاستثمار والتنمية، وهو الدور التقليدي، الذي أجاده القطاع الخاص، ودور ومسئولية تنافسية، بين دول العالم، وإلا فاته قطار التقدم، ودور ومسئولية اجتماعية، إذ لم يعد قياس كفاءة القطاع الخاص مرهوناً بحجم استثماراته، ومعدلات نموه، وعائدات أرباحه فقط، بل أصبح مرهوناً بالمشاركة والمساهمة في التنمية المجتمعية، والتنمية البيئية. ولفتراتٍ طويلة، اقتصر دور القطاع الخاص، في المجال الاجتماعي، على جهود فردية، اتخذت في الأغلب الأعم، صورة التبرعات والمساهمات الاجتماعية، وأحياناً كان يأتي هذا الدور بطلبٍ أو تشجيع من الدولة والحكومات، للقطاع الخاص، للقيام به. وتغير الأمر تماماً ، فمنذُ عقودٍ، بدأ بعض رموز القطاع الخاص، إنشاء مؤسساتهم الاجتماعية والخيرية، وواكب ذلك تطوير مساهماتهم الاجتماعية والتنموية، من النمط الفردي، إلى الشكل المؤسسي المنظم، كما تنوعت أنشطتهم الاجتماعية، من مجرد أنشطة رعاية، لتتضمن أنشطة تنموية، أكثر فاعلية وتأثيراً، وتشرفت بأن أكون واحداً من هؤلاء. ثم انتقل دور القطاع الخاص الاجتماعي، من الهواية إلى الاحتراف، ومن التبرع الخيري، إلى درجة أعلى من الالتزام والمسئولية. وهنا يملؤني الأمل في إعادة النظر في أولويات الإنفاق على أعمال الخير، إذ أرى أن الأولوية يجب أن تكون لمساعدة المرضى الفقراء على الشفاء، ومساعدة الطلاب غير القادرين على استكمال تعليمهم، بشكلٍ راقٍ وكريم، فكم من أسرة فقدت عائلها، لعدم قدرتها على استكمال علاجه، وكم من نابغة تسرب من التعليم، لأن الفقر وقف مانعاً دون تحقيق ذلك، والنتيجة أن المجتمع يفقد قدراته، ويستنزف فرصه في النمو والارتقاء.. لقد أفرد الدين اهتماماً خاصاً بالعمل الاجتماعي، الذي يعود بالخير على الناس، ورفع من شأن كل عبادة فيها تحقيقٌ لمصالح العباد، وقضاءٌ لحوائجهم، وتفريجٌ لكرباتهم، وتهوينٌ لمصائبهم. وأقر الحقيقة النبيلة : أحب الناس إلى الله، أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على إنسان، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَيناً، أو تطرد عنه جوعاً. ففي الأديان كلها، لا معنى للعبادة بدون العمل الاجتماعي، بل إن العبادة نفسها، إن لم تقترن بحسن الخلق، والمعاملة الحسنة مع الناس، فإنها تجلب الوزر، لا الأجر. وليس من الدين، أن نقابل الأزمات التي نعيشها من فقر وبطالة، بالانسحاب من المجتمع، والاعتكاف في الزوايا. وليس من الفقه في شيء، أن ينفق الغني أمواله في الحج والعمرة كل عام، أو في زخرفة المساجد، إلى حد الإسراف والمباهاة، ويترك المجتمع غارقاً في أزماته، لكن مقتضى الفقه في الدين، أن ينفق هذه الأموال في الأوجه الأكثر نفعاً للمجتمع. من الجميل لاشك أن نعرف معنى العطاء، والأجمل أن نعطي .. إفعل الخير، وسيعود إليك بطرقٍ لا تتوقعها، وأعلم أن الذي يُعطي (بسرعة) يُعطي (مرتين). وتذكر أن صنائع المعروف، تقي مصارع السوء، وقد علمونا في الصغر أن النار فتحت أبوابها لإمرأة حبست (هِرة) لا هي أطعمتها، و لاهي تركتها، وأن الجنة أيضاً فتحت أبوابها لرجل سقى كلباً، كاد يهلك من العطش. إذا كانت هذه الأعمال البسيطة، بالنيات الصادقة، قد غيرت تماماً مسارات أصحابها، فما بالنا بعظيم الأعمال، وكبير الأفعال، الثواب عظيم، والأجر كبير، يستحق البذل والعطاء. لمزيد من مقالات محمد فريد خميس