يُروى أن والد «النبى محمد» صلى الله عليه وسلم «عبدالله بن عبدالمطلب» بعد زواجه من السيدة «آمنة بنت وهب» بفترة قصيرة أرسله والده «عبدالمطلب» إلى المدينةالمنورة ليجلب لهم تمراً، لكن مرضاً شديدا ألم به على نحو مفاجئ، وتُوفى، ودُفن هناك. وكان الرسول ساعتها لا يزال جنينا فى بطن أمه. وبعد ولادته تكفل به جده «عبدالمطلب بن هاشم»، لكنه لم يمكث معهم غير فترة يسيرة، حيث طلبوا له مرضعة من أهل البادية، كعادة العرب وقتها، وكانت المرضعات يأتين من البوادى المحيطة بمكة، وتختار كل منهن واحدا من أبناء السادة الأثرياء الذين يُجزلون لهن العطاء مقابل رضاعه، وكان العرب آنذاك يفضلون تنشئه أولادهم فى البادية ليشتد عودهم، ويتعلموا الأصول الصحيحة للعربية .............................................. والعجيب أن كل المرضعات تفادين الطفل «محمدا» حين عرفن بيتمه، ولأن جده «عبدالمطلب» كان فقيرا، وإن كان صاحب مكانة فى قريش، وهيبة بين الناس، وكان مسؤولا عن رِفادة وسقاية الحجيج، ويحوز مفتاح الكعبة. وذهبن جميعهن بأحمالهن من أبناء الأغنياء، ولم يتبق غير»حليمة السعدية» التى ترددت بشأنه لبعض الوقت، ثم رضيت به على مضض فى النهاية، فلم يتبق أمامها غيره، وأخذته إلى بادية قومها «بنى سعد»، وهناك قضى سنواته الأولى بعيداً عن أمه وجده وأعمامه جميعا، وبعد سنتين من رحيل أمه «آمنة بنت وهب»، تُوفيّ جده «عبدالمطلب»، وتكفل به عمه «أبو طالب»، وأضحى الصبى يتيم الأبوين، وكأن القدر كان يُعدّه نفسيا لأن يكون وحيدا متفردا. ليتحقق ما قالته العرب عن «الدُرّة اليتيمة» التى ورد وصفها فى «صحاح الجوهرى» بأن «الدُرّة اليتيمة» هى ما انقطعت عن المادة التى اُستخرجت منها»، وكل «مفرد يعزّ نظيره» هو يتيم!. هذا بجانب أن اليتم يمنح صاحبه من بواكيره «هِمَّة عِصامية» تجعله يعتمد على نفسه منذ الصغر، ويتعامل مع كافة شئون الحياة بإرادة فاعلة، لا يتواكل فيها على أحد، ولا يستند إلى ظهير. وربما من جانب ما، أن النشأة الصعبة تقوى عزيمة كل من يعانونها مثله، ليتأسوا به، وتهدأ نفوسهم بتشابههم معه، وتهون عليهم مشقات الحياة كما تحملها هو. وحين سئل «محمد بن جعفر الصادق» عن حكمة يتم الرسول بنظره، فقال: «حتى يتولى الله تعالى تربيته ويصنعه على عينه» وأضاف: «لئلا يكون لمخلوق عليه حق». لذا قال الرسول: «أدّبَنِى ربى فأحسن تأديبى» رواه العسكرى عن الإمام «على بن أبى طالب». ومن شيم اليُتم أنه يُرقِّق القلوب، ويصفِّيِ النفوس، ويمنحها فضيلة التأمل، فتكتسب حكمة تدّبُر الأحداث، وتحمُل صعاب الحياة، ومفاجآتها أيا كانت، فقد امتلأ قلب الرسول بالرحمة على الأيتام، واستشعر بتجربته عميق أحزانهم مهما أخفتها القلوب، حياءً أو ضعفاً، وأدرك آلام الوحدة الاجتماعية التى تنطوى عليها نفوسهم، فبقى طوال عمره يحضُّ على رعايتهم، والاهتمام بهم، وتشجيع الناس على كفالتهم ليفوزوا بصحبته فى الجنة: «أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنَّة»، وأشار بإصبعيه السبَّابَّة والوُسطى. وقال أيضا ما معناه: «إذا أردت أن يلين قلبك فامسح على رأس يتيم». ويذكر أن أمّه «آمنة بنت وهب» كانت قد اصطحبته معها، وهو فى السادسة، إلى يثرب (المدينة) وبصحبتهما «أم أيمن» (جارية جده عبدالمطلب)، لزيارة أخوال أبيه «بنى عدى بن النجار» بعدما استأذنت جده الذى لم يكن يحتمل فراق حفيده، وهناك فرح به أخواله فرحاً كبيراً ولم يأذنوا لأمه بمغادرتهم إلا بعد إلحاح شديد منها. وفى طريق عودتهم، زارت قبر زوجها، والد الرسول، «عبدالله بن عبدالمطلب» بالمدينة. وفى مكان يعرف ب «الأبواء»، بين مكةوالمدينة، أحسَّت «آمنة» بآلام شديدة منعتها المسير، وبكى طفلها وهو يراها فى النزع الأخير، فاحتضنته، وكان آخر ما قالته له: « يا محمد.. كن رجلاً». وعاد إلى مكة وحيدا مع حاضنته «أم أيمن» التى قال لها: «يا أم أيمن أنت أمى بعد أمى». ولما بلغ سن الثامنة توفى جده عبدالمطلب بمكة (578 م) عن عمر 110 سنوات (وقيل أكثر من ذلك)، وكانت وفاته بعد عام الفيل بثمانية أعوام، وبكى الصبى محمداً خلف سريره، ودُفن «عبدالمطلب» بجبل الحجون بأعلى مكة، بجوار قبر جده «قُصيّ بن كُلاب»، وفى ذات السنة مات «حاتم الطائى» أكرم العرب، و«كسرى أنو شِروَان» ملك فارس. وقبل رحيل «عبدالمطلب» كان قد أوصى ابنه «أبو طالب»، بكفالة «محمد» ابن أخيه، وكان عمّه كريما لكنه فقير، شأن «بنى هاشم»، كثير الأولاد، وتعلق به الفتى، وأحبه حباً شديدا، ولم يكن ينام إلا بجواره، ويخرج معه متى خرج. ونقل «ابن عساكر» عن «جلهمة بن عرفطة» قوله:» قدمت مكة وهم فى قحط فقالت قريش: «يا أبا طالب أقحط الوادى وأجدب فهلم فاستسق». فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة (تصغير جمع غلام)، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه (أشار بإصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجىء) وما فى السماء قزعة (قطعة من سحاب) فأقبل السحاب من هنا وهنا، وأغدق واغدودق (كثر مطره) وانفجر الوادى وأخصب النادى، ولذلك أنشد «أبو طالب» مادحاً ابن أخيه بقصيدة طويلة، منها: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده فى نعمة وفواضل (و«الثِمال» هو الملجأ، والغياث، والمُطعِم فى الشِدّة و«عصمة للأرامل» أى يمنعهم الضياع والحاجة). ولأن «أبا طالب» كان قليل الرزق، بادر الفتى «محمد» إلى العمل برعى الغنم ليُخفِّف عبئه عن كاهل عمه المثقل بكثرة العيال، وشُح المال. وقد قال لأصحابه لاحقا: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟. قَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ».(البخاري). والرعى من الأعمال الشاقة، التى تورث صاحبها الجَلَد، وقوة البدن، وتعلمه طولة البال، والدأب، ودقة الملاحظة، وسرعة الحركة لحماية الشياه الشاردة، وتوسع صدره، وهى صفات لا يتنعم بها من عاش فى رَغَد، ودِعة. فالمشقات تمنح الإنسان قدرة هائلة على الاحتمال، والصبر على المكاره. وهى من صفات العصامية التى يحتاج إليها كل صاحب رسالة، خاصة الأنبياء. وكانت زوجة عمه «أبى طالب» «فاطمة بنت أسد» (أم الإمام على) أكثر من لاحظ حياءه الشديد، وكانت من أبرّ النّاس به، ومن أوائل من أسلمن فى سنوات البعثة الأولى، وأوّل امرأة هاجرت إلى المدينة على قدميها، وأول من بايعت النبى بعد نزول الآية: «ياأَيهَا النَّبيُّ إِذَا جَاءَك المُؤمِنَات يبَايعنَك». وكانت بمنزلة الأُمّ للرسول، وكانت قد لاحظت حياء الصبى «محمد» حين انتقل للعيش مع أبناء عمه، وكان خجله يمنعه من المزاحمة إذا جلسوا إلى الطعام، ولم يكن يدرك شيئا منه لكثرة أيادى أولاد عمه عليه، فدأبت هى من البداية على تجنيب نصيبه من الطعام، ليأكل بمفرده ويشبع. فأحبها لحنوها عليه، وبات يناديها «أمى». ويُحكى أنها سمعته يقول: «إنّ النّاس يحشرون يوم القيامة عُراة كما ولدوا»، فقالت: «وا سوأتاه». فقال لها الرسول: «فإنّى أسأل اللَّه أن يبعثك كاسية». وحين توفيت فى السنة الرابعة للهجرة، كفّنها الرسول فى قميصه، وصلَّى عليها، ودفنها فى البقيع، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان، فقال له عمر بن الخطاب: «يا رسول الله.. رأيتك فعلت لهذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد» فقال النبى الكريم: «يا عمر إن هذه المرأة كانت أمى، إن أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة، وكان يجمعنا على طعامه، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيباً فأعود فيه، وإن جبريل عليه السلام أخبرنى عن ربى عز وجل أنها من أهل الجنة». ودعا لها: «اللهم ثبِّت فاطمة بالقول الثابت، رب اغفر لأمى فاطمة بنت أسد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والانبياء الذين من قبلى إنك أرحم الراحمين». وقد أفاض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى الرفق باليتيم فى أحاديث عديدة، فحين سئل عن أجر كافل اليتيم، فقال: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين فى الجنة». (رواه مسلم). وقال: «من ضم يتيماً بين مسلمين فى طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة». (رواه أبو يعلى والطبرانى وأحمد عن أبى الدرداء). ويُذكر أن رجلا شكا إليه «قسوة قلبه»، فقال له الرسول: «أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك. ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك» (رواه الطبراني). وقال النبي: «من وضع يده على رأس يتيم رحمة، كتب الله له بكل شعرة مدت على يده حسنة» (الإمام أحمد عن أبى هريرة). وعند عودته من حجة الوداع، عرج على قبر أمه، وكان وقتها جهير الشهرة، وربما أكثر رجل يتردد اسمه فى أنحاء الدنيا، ودانت له قبائل الجزيرة العربية، وأرسل إلى كبار حكام العالم يدعوهم بثقة إلى الإسلام، وبانتشار الرسالة، بات هو من هو، لكن ذلك الطفل اليتيم ظل قابعا هناك، فى قرار قلبه، وبقى حزنه الدفين يشدّه إلى صورة أمه وهى تحتضر فى «الأبواء»، حين غادرها هو ومربيته «أم أيمن» إلى مكة. وعن ذلك المشهد الاستثنائى يقول «أبو هريرة»: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى، وأبكى من حوله». وفى حديث عبدالله بن مسعود رضى الله قال: «خرج رسول الله يوماً، فخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور، حتى انتهى إلى قبر منها، فجلس إليه فناجاه طويلاً، ثم رجع رسول الله باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علينا، فتلقاه عمر رضوان الله عليه وقال: ما الذى أبكاك يا رسول الله، فقد أبكيتنا وأفزعتنا؟ فأخذ بيد عمر، ثم أقبل علينا فقال: «أفزعكم بكائى؟». قلنا: نعم. فقال: «إن القبر الذى رأيتمونى أناجى قبر «آمنة بنت وهب». رحم الله أمير الشعراء «أحمد شوقى» الذى أنشد فى بردته: ذُكرت باليتيم فى القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون فى اليُتمِ.