يأتي رمضان وبعض الناس في شقاق وخلاف ونزاع..بين الأخوة الأشقاء ..بين الجيران..بين الزوجين، بين الأصدقاء وزملاء العمل..بح صوت الوعاظ والدعاة أن تصالحوا، وقبل أيام وفي منتصف ليلة المغفرة، ليلة النصف من شعبان، عُلقت أعمالهم بسبب عنادهم وإصرارهم على التشاحن! ولو تركوا وشأنهم ما انتهوا عن ظلمهم لأنفسهم وما كفوا عن عنادهم. من هنا كان لابد إذن من طرف ثالث يقرب وجهات النظر.. يصلح بينهم. إنهم المصلحون الذين يقومون بالإصلاح بين الناس، يستمعون إليهم يستميلون قلوبهم، محققين بغية الإسلام من المجتمع، والتى جسدها النبي، صلى الله عليه وسلم، فى قوله (مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي). ويقول الدكتور محمد عبدالرحمن الريحاني، عميد دار علوم المنيا، إن الإصلاح بين الناس مبعث الأمن والاستقرار ومنبع الألفة والمحبة ومصدر الهدوء والطمأنينة ودليل الأخوة (إنما المؤمنون إخوة) ولذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم يحث على إصلاح ذات البين، فالإصلاح بين الناس وظيفة المرسلين ولا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم وزكت نفوسهم وصفت أرواحهم.. وكان صلى الله عليه وسلم يرغب فى إصلاح ذات البين ويحث عليه، فقال (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته ويحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها الى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة..). وبين صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقات الإصلاح بين الناس فقال (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين). رخصة بالكذب وأوضح، د. محمود عبده نور، الأستاذ بجامعة الأزهر، أنه برغم حرمة الكذب، إلا أنه يرخص فى الإصلاح بين المتخاصمين، فحينما يصلح الإنسان بين اثنين، حينما يسب أحدهما الآخر، فيكذب الوسيط ويقول له (قال فى حقك كلاما طيبا)، وبهذا يصلح بينهما، ويلزم المعتدى أن يقف عند حده، درءا للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع ومنعا للعنف والخراب والخصام فإذا تحقق الصلح حل التوفيق وجرى التوافق وأنزل الثبات والأمن فى الأمر والعزيمة على الرشد. وأشار إلى أنه يجب على المصلح أن يلتزم بقواعد أدبية، من أهمها أن يختار الوقت المناسب للصلح بين اثنين، (وما أنسب هذه الأيام المباركة) بحيث يستمع الطرف الآخر له، وأن يتحرى العدل حتى لا يجور على طرف منهما، وألا يقع فى ظلم أحدهما، وذلك فى قول الله عز وجل: (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا) وأن يخلص النية لله، فلا يبتغى بصلحه رياء أو سمعة وإنما يقصد بعمله وجه الله. ويبين د. محمود عبده أن الإصلاح بين المتخاصمين مهمة جليلة قد نسيها بعض الناس، فكثير من الخصومات تكون أسبابها تافهة وإزالتها يسيرة، وقد توجد رغبة الصلح عند كلا الخصمين، ولكن يمنع ذلك، أن كل طرف لديه الأنفة والعزة، أو الكبرياء على الآخر، ويصعب التنازل مباشرة أو المبادرة إلى الصلح بلا وسيط، فإذا حضر الوسيط سهل الإصلاح بينهما لرغبة كل واحد منهما فى ذلك. الصلح بين الزوجين وأضاف، د. نور، أن من أهم أنواع الصلح، الصلح بين الزوجين، لأنه تبنى عليه البيوت وتترابط به الأسر التى هى أسس المجتمعات البشرية كما أن فساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكك الأسر وتشتتها. لذا فإن من أهم ما يسعى إليه الشيطان وأشد ما يسره ويعجبه أن يفرق بين المرء وزوجه، حيث يبعث جنوده ينتشرون للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبهم إليه من سعى بالوقيعة بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق. وأشار إلى أن الإصلاح بين الناس مهمة عظيمة وواجب دينى لا يقوم به إلا من كانت ضمائرهم حية ومشاعرهم نبيلة، لذا فينبغى علينا أن نكون إيجابيين تجاه إخواننا، فإذا ما كان بين بعضهم شقاق بادرنا بمحاولات التوفيق والإصلاح، ولا ننتظر أن يدعونا أى من الطرفين للإصلاح. والإصلاح يقتضى من المصلح بعض الوقت والجهد والمال أحيانا، وقد يتوقف أحيانا على أن يكون المصلح ضامنا فى موقف معين فينبغى ألا يتراجع عن مد يد العون للمتخاصمين. وليعلم أنه بذلك يبتغى الأجر من الله عز وجل، فلا ينتظر ثناء أحد، ولا يدفعنه سوء تفاهم بينه وبين أحد الطرفين الساعى فى التوفيق بينهما، لا يدفعنه ذلك لفضح ما يعلمه عنه من أسرار أو خصوصيات. ويقول الدكتور عبدالوارث عثمان، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الله عز وجل لا يقبل عمل المتشاحنين حتى يصطلحا، وصلح ذات البين عمل شاق ليس سهلا، وأمرنا الله عز وجل به فقال تعالي: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، ومن هذه الآيات وجبت المسارعة فى الإصلاح بين المتشاحنين، لأن أجره عند الله عظيم، يقول تعالي: (لاَ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).