الفلسفة والتاريخ يعدان من أقدم العلوم الإنسانية. فقد تم تأسيسهما منذ أكثر من ألفى عام. ونحن نتحدث عن نشأة علم معين عندما يتوافر له شرطان: الشرط الأول، موضوع محدد للدراسة, والشرط الثانى هو تبلور منهج يسمح باستنتاج نظريات تفسر الظواهر الخاصة بموضوع الدراسة. ولقد تحدد للتاريخ موضوعه وهو سرد الوقائع عبر الزمان وتفسيرها أى معرفة أسبابها. فعلى سبيل المثال، لماذا نجح الإسكندر فى فتوحاته؟ أو لماذا انهارت الإمبراطورية الرومانية؟ أسئلة يتبارى المؤرخون فى الإجابة عنها. أما الفلسفة فهى العلم الذى يبحث فى الوجود ويمكننا من التحقق من صدق معرفتنا بهذا الوجود. الزمن فاعل أساسى فى علم التاريخ، إذ يلزم ترتيب الوقائع ترتيباً تاريخياً. أما فى الفلسفة فليس للزمن دور يذكر، لأننا نهتم بالحكم على صحة الفكرة فى حد ذاتها. فعلى سبيل المثال، شبه أفلاطون دور الحاكم بأنه مثل دور رب العائلة، واعترض أرسطو على هذا التشبيه، فنحن جميعاً نصير آباء دون أن تكون لنا سلفاً أى كفاءة فى ذلك. ولهذا شبه الحاكم بربان السفينة. لا يهم هنا أن نعرف أى فكرة قد سبقت الأخرى، ولكن ما يهمنا هو أن نعرف أى الفكرتين أصح. وهكذا يكون هدف الفلسفة هو البرهنة على صحة الأفكار بصرف النظر عن الزمن الذى صيغت فيه هكذا صار الحال على مدى القرون بين التاريخ والفلسفة حتى ظهر أخيراً فى منتصف القرن التاسع عشر وداخل المدرسة التاريخية الألمانية ما يسمى علم تاريخ الأفكار الذى يجمع بين التاريخ والفلسفة ويتجاوزهما معاً. فنحن نعلم أن التاريخ قد انقسم فروعاً وصار هناك التاريخ السياسى الذى يهتم بمنجزات الحكام والحروب وتأسيس الامبراطوريات والتاريخ الاقتصادى الذى يدرس تطور أنماط الانتاج وصور الملكية وأشكال التبادل التجارى والتاريخ الاجتماعى الذى يدرس دور الأسرة والقبيلة وعلاقة الأفراد بالدولة..إلخ. ولكن علم تاريخ الأفكار، من وجهة نظر الفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر، ذو طبيعة خاصة تختلف عن هذه التواريخ، لأنه هو الذى يكشف عن حقيقة الوجود. لماذا؟ يقول هايدجر لأن الأفكار لا تخضع لإرادة الإنسان، فى حين أن الحروب تصدر بقرارات وكذلك معاهدات السلام، كما يجتمع المخططون ويضعون خطة اقتصادية خمسية أو يؤممون أو يخصخصون، أو يصدرون قوانين تبيح للناس أفعالاً وتحظر أخرى. كلها تواريخ تخضع لإرادات البشر. ولكى نفهم الطبيعة الخاصة للأفكار، علينا أن نتخيل حال أى شخص منا فى الفترة ما بين خروجه من منزله ووصوله إلى مقر عمله، فنجده ينشغل بأفكار فرضت نفسها عليه ولم يقرر لنفسه سلفاً ما هى الأفكار التى سيهتم بها فى أثناء الطريق. هكذا الحال بالنسبة للشعوب، ينشغل الناس بالأفكار دون قرار إرادى، ثم تضمحل الأفكار المهيمنة وتختفى من تلقاء ذاتها. الفرق واضح بين ضروب التاريخ التى تخضع لإرادات البشر، وتاريخ الأفكار الذى يفرض نفسه على البشر فرضاً. ولكن لماذا يترتب على ذلك أن يكون تاريخ الأفكار وحده هو الذى يعبر عن حقيقة الوجود؟ فلنأخذ على سبيل المثال التقدم التكنولوجى الذى حقق إنجازات هائلة تفوق أحلام البشر. لو نظرنا إليه باحثين عن إرادة البشر أى باعتباره نتاج دراسة قام بها مجموعة من الناس وقرار وتخطيط قام به آخرون وتمويل تحمله غيرهم، فإننا سوف نحسبه قصة نجاح. فى حين لو تأملنا الأفكار التى تؤرق البشر وتشغل بالهم لتبين أنه ورطة ومأزق وجد الإنسان نفسه فيه. تاريخ الأفكار إذن لا يسعى كما هو حال الفلسفة إلى الحكم على الأفكار بالصدق والكذب، ولا يكتفى بالتسلل الزمنى للفكر، ولكنه يتعامل مع الفكر على أنه كاشف للوجود فى جميع أبعاده. وفى ثقافتنا العربية المعاصرة لو تصورنا أن شخصاً قبل قاسم أمين بمائة عام قد طرح فكرة تحرير المرأة، أغلب الظن أن هذه الفكرة فى حينها كانت ستولد ميتة، لن يتحمس لها أحد ولن يتحمل عبء الرد عليها أحد. ولكن الضجة التى هزت النخبة المصرية بل والمجتمع المصرى بأسره عند بداية القرن العشرين حينما نشر قاسم أمين كتابه تحرير المرأة بالغة الدلالة وكاشفة لأبعاد فى الحياة الاجتماعية المصرية لا تكفى التواريخ الأخرى لكشفها. كتاب واحد صدر للرد عليه أكثر من مائتى كتاب كلها مليئة باليقين بتهافت فكرة قاسم أمين وبطلانها بل وبجنونها. ربما كان هذا التجييش ضده تعبيرا لاشعوريا عن إحساس عميق بأن الزمن أكبر نصير لدعوته. كذلك يمكن أن ندرس أفكاراً تصدرت الساحة الثقافية زمناً طويلاً فى مجتمعنا مثل النشوء والارتقاء، أو الاشتراكية. المهم أنه فى سعينا لرصد الأفكار التى يتجادل بشأنها المجتمع علينا أن نبحث عنها فى كل أشكال التعبير المتاحة، فكراً أو أدباً أو فناً. ولهذا فتاريخ الأفكار يتطرق إلى مناطق متنوعة وبالتالى فهو من العلوم المتعدية للتخصصات، كما أنه كاشف بشكل كبير عن أصول وحدود وآفاق السجالات الفكرية الحالية فى كل مجتمع. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث