لم يمر الاتحاد الأوروبى بلحظات ضعف مثل التى يمر بها الآن أمام إدارة ترامب التى نجحت فى توجيه ضربات متتالية قاسية لهذا الكيان الضخم الذى أصبح قادته فى حالة ارتباك في مواجهة هذا الهجوم . الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من جهته لم يخف شعوره تجاه الاتحاد ووصفهم صراحة ودون مواربة أو تجميل بأنهم «خصوم» وان لديه مشاكل كبرى مع ألمانيا. ولكن قادة الاتحاد ما زالوا مختلفين حول طريقة الرد المناسبة بخلاف بعض التصريحات التى يتم إطلاقها على استحياء من بعض الوزراء الذين أصبح لديهم قناعة بأن الوقت قد حان للخروج من عباءة البيت الأبيض.
هذه الضربات التى وجهها ترامب للاتحاد الأوروبى لم تكن فقط حربا كلامية على «تويتر» أو خلال اللقاءات المختلفة التى جمعته بقادة هذه الدول بل إنها ذهبت أبعد من ذلك بكثير..حيث قام بإعلان الحرب التجارية وفرض إجراءات وصفها المراقبون بالعقابية على المنتجات الأوروبية وخاصة صادراتها من الصلب والألومنيوم. وقد بدأت الحرب الفعلية بين الجانبين منذ فترة طويلة بعد انسحاب ترامب، من اتفاق باريس للتغير المناخى والانسحاب من الاتفاق النووى الإيراني، الذى تم استغلاله لوقف أعمال جميع الشركات الأوروبية العاملة فى إيران ثم قيامه بفرض عقوبات تجارية تهدد الشركات الأوروبية وتضعف من صادراتها وتهديده بحرب تجارية. وعلى الرغم من أن ترامب قد طال جميع دول الاتحاد الأوروبى بسهامه الحارقة إلا أن المانيا كان لها النصيب الأكبر من ذلك الهجوم وهو أمر أرجعه المراقبون إلى رغبته فى تفكيك دول الاتحاد وقد أدرك أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال ألمانيا باعتبارها القاطرة الحقيقية لهذه الدول ودلل المراقبون على ذلك بأن شعوره تجاه المانيا ظهر واضحا خلال حملته الانتخابية حينما صرح بأن ميركل قد ارتكبت خطأ كارثيا حينما فتحت الباب للاجئين وانها سوف تجنى ثمار هذه السياسة بسبب دخول هؤلاء إلى الأراضى الألمانية. وقال ايضا إن العجز التجارى الكبير للولايات المتحدةالأمريكية مع ألمانيا، دليل على وجود علاقات تجارية غير متكافئة بين البلدين،وهدد بفرض رسوم جمركية على صادراتها من السيارات. كما شن هجوما حادا على ألمانيا، متهما إياها بأنها «رهينة» روسيا فى امدادات الطاقة. و قال إن ألمانيا تدفع مليارات الدولارات لروسيا لتأمين إمداداتها بالطاقة وفى الوقت نفسه نجد أنفسنا ملتزمين بالدفاع عنها فى مواجهة روسيا. حالة الهجوم «الترامبى» المستمر على الاتحاد الأوروبى وألمانيا نجحت إلى حد ما فى توسيع فجوة الخلاف بين هذه القوى ويبدو أن الطريق الذى جمعهما عقب الحرب العالمية الثانية قد أوشك على الوصول إلى نهايته .ومن هنا جاء السؤال الذى بدأ يتردد داخل أروقة الاتحاد فى بروكسل أو داخل مقر الحكومة الألمانية فى برلين.هل آن الأوان لأوروبا أن تعيد حساباتها مع الشريك الأمريكي؟ من جانبها عبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن ذلك بقولها فى تصريحات صحفية فى ميونخ أن أيام الاعتماد على الآخرين قد مضت بعض الشيء، واضافت أنه يتعين علينا نحن الأوروبيين أن نتحكم فى مصيرنا وانه يجب علينا أن نعرف أنه علينا أن نكافح من أجل مستقبلنا كأوروبيين ومن أجل مصيرنا. وكذلك قال وزير خارجيتها هايكو ماس إن سياسة ترامب لن تجعل العالم أكثر أمانا بسبب مواقفه التى بدأها من رفض معاهدة المناخ ثم الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران بالإضافة إلى الرسوم الجمركية على دول اوروبا..مؤكدا أن ترامب يعى تماما التأثير السلبى المباشر لتلك القرارات علينا. وحذر ماس من أن ترامب يبتعد عن العمل المتعدد الأطراف مع شركاء أمريكا وان هذه الأفعال لن تجعل العالم أفضل أو أكثر أمانا وسلاما. من جانبه، دعا وزير الدولة الألمانى للشئون الأوروبية ميخائيل روت إلى التكاتف عقب تصريحات ترامب، مؤكدا ان الرئيس الأمريكى يمارس الاستفزاز وأنه يحاول إحداث انقسام فى الاتحاد الأوروبي. ويشير المراقبون هنا أن الرئيس الأمريكى يسعى لتحطيم القاطرة الأوروبية من خلال هجومة المستمر غير المبرر على برلين.. ولكن يبدو أن العقوبات التجارية التى فرضها ترامب على الاتحاد الأوروبى وشركاته العاملة فى إيران هى القشة التى تسببت فى تحرك هذا الكيان لأن هذه القرارات وكما يؤكد المراقبون ستلحق أضرارا بالغة باقتصاديات تلك الدول . وأشار المراقبون إلى محاولة فرنسا لعب دور للتخفيف من حدة هذا التوتر حيث طلبت من ترامب منح إعفاءات لشركاتها الكبرى العاملة فى إيران فى مجالات الطاقة والبنوك والسيارات إلا أن طلبها قوبل بالرفض التام.ومن هنا بدأ الاتحاد فى تقديم شكوى رسمية إلى منظمة التجارة العالمية ضد الإجراءات الأمريكية وانضمت إليهم أخيرا كندا. وكان لابد للاتحاد الأوروبى أن يكشر عن أنيابه ويتبع سياسة العين بالعين التى فرضها ترامب عليهم وبالفعل قرر فرض رسوم استيراد بواقع 25 فى المئة على مجموعة من المنتجات الأمريكية ردا على الرسوم التى فرضتها واشنطن على شحنات الصلب والألومنيوم المستوردة من الاتحاد. ولم يكتف الاتحاد الأوروبى بهذه الإجراءات ردا على ترامب بل اتجه إلى توقيع اتفاقيات مع اليابان للتبادل الحر يتضمن الاتفاق إقامة منطقة تبادل حر حيث تم توقيع الاتفاق فى طوكيو وجاء بمثابة رد حاسم ضد الإجراءات الأمريكية، كما وصفها المراقبون، الذين أكدوا ان موقف ترامب كان الدافع وراء تسريع خطوات الاتحاد الأوروبى لإنشاء مثل هذه الاتفاقية مع الجانب اليابانى . إذن على المستوى التجارى بدأت اوروبا تتحرك للدفاع عن مصالحها وكشفت عن أدواتها التى تستطيع من خلالها مواجهة البيت الأبيض وبدأت أيضا ميركل تحركات واسعة تجاه الصين لتوقيع عدد من الاتفاقيات التجارية تفتح بها أسواق آسيا لمنتجات بلادها وفى الوقت نفسه تبعث من خلالها رسالة قوية إلى ترامب بأن ألمانيا أيضا دولة عظمى لديها القدرة على مواجهة حربه الاقتصادية تجاها وتجاه حلفائها فى الاتحاد. هذه الحالة دفعت أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرج إلى تصريحه للصحف الألمانية بأنه لا توجد ضمانات حاليا تسهم فى استمرار بقاء الحلف وذلك على وقع الخلافات الأخيرة بين أوروبا وأمريكا وقال إنه ليس مكتوباً على صخرة أن التحالف القائم عَبْر الأطلسى سيستمر إلى الأبد. بالطبع هذه الخلافات امتدت إلى الشرق الأوسط والتى بدأت بالملف النووى الإيرانى واعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل دون موافقة الاتحاد..وهنا يقول الخبير الألمانى د. هيننع ريكه ان هاتين القضيتين تعتبران خطا أحمر قد تعدته الإدارة الأمريكية، الأمر الذى سيجعل حتما الأوروبيين يتخذون موقفا موحدا..وربما تكون لهم سياسات مختلفة تجاه الشرق الأوسط فى المرحلة المقبلة. ودعا رئيس المجلس الأوروبى دونالد توسك..الاتحاد الأوروبى إلى الاستعداد لأسوأ سيناريوهات مع الولاياتالمتحدة فى ظل رئاسة دونالد ترامب. بالفعل يتوقع المحللون هنا أن الأيام المقبلة ستشهد العديد من التغييرات فى السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى الذى بدا مقتنعا أكثر من أى وقت مضى أنه يجب ان يتحرك وفقا لمصالح أعضائه فقط كما تفعل الإدارة الأمريكية..ولكن هل يستطيع الاتحاد بالفعل تغيير سياساته تجاه القضايا المختلفة هذا ما سوف تكشف عنه الأيام المقبل.