رغم التحالفات الموجودة بين دول الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن ما يحكم العلاقة بينهما هى لغة المصالح، فالدول الأوروبية تؤيد واشنطن، لكنها فى النهاية لها مصلحتها أولًا. منذ اتخاذ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قراره، فى 8 مايو الجارى، بالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران، وهو يدرك أن هناك غضبًا تجاهه من الدول الأوروبية التى ترى أن الانسحاب يزيد الأمور تعقيدًا وليس فى مصلحتهم، إذ إن لهم مصالح مشتركة مع إيران. فرنساوألمانيا وبريطانيا، اعترضوا على قرار «ترامب»، وحاولوا إثناءه عنه إلا أنهم فشلوا، لتكون المفاجأة، الأسبوع الماضى، عندما تحدثت الصحف العالمية عن شروع الصين، وروسيا، ودبلوماسيين من ألمانياوفرنسا وبريطانيا فى مناقشة اتفاق نووي جديد، تحصل بمقتضاه إيران على مساعدات مالية، فى محاولة لإنقاذ الاتفاق النووى الموقع فى 2015، والحد من النفوذ الفارسى فى منطقة الشرق الأوسط، وتقليص تطويرها للصواريخ الباليستية، فى ظل غياب أمريكى تام. أوروبا التى كانت حليفًا دائمًا للولايات المتحدة غيرت موقفها واتخذت مسارًا صداميًا مع الإدارة الأمريكية وهو ما اعتبره مراقبون أوروبيون مفارقة تاريخية، لم تحدث منذ «حرب العراق»، عندما عارض الاتحاد الأوروبى، الهجوم العسكرى الأمريكى على بغداد. المؤكد أن الأمور لن تصل إلى الصدام العنيف المعلن، لكن فى الوقت نفسه، قرار «ترامب» بشأن العقوبات التى ستفرض على الشركات التى تتعامل مع «إيران»، أثر بشكل كبير على الاتحاد الأوروبى، الذى رفض القرار الأمريكى، خاصة بعد تصريح مستشار الأمن القومى الأمريكى «جون بولتون»، بأن هناك إمكانية لفرض عقوبات ثانوية على الشركات الأوروبية، بعد انسحاب «الولاياتالمتحدة» من الاتفاقية. «بولتون» نسى أن «ألمانيا» فى المقابل لديها أكثر من 100 شركة، وما يزيد على عشرة آلاف تاجر فى «إيران»، والأمر نفسه لإيطاليا، وفرنسا التى تشارك منذ عقود أكبر شركات صناعة السيارات الكبرى فى السوق الإيرانية، كما يستورد الاتحاد الأوروبى حوالى 40 % من النفط الذى تصدره «إيران»، بالإضافة إلى تصدير الاتحاد الأوربى فى العام الماضى، بضائع بحوالى 11 مليار دولار لإيران، وفقًا لموقع المفوضية الأوروبية الرسمى، لذلك فإن القرارات الأمريكية الأخيرة ستوقف الأعمال التجارية للاتحاد هناك. الصحف الأوروبية ثارت ضد القرار الأمريكى واعتبرت أن الإدارة الأمريكية تعمل بمفردها، ولا تستشير الاتحاد الأوروبى، ومما صعد الأزمة أنه لم يكن هذا القرار هو الأزمة فحسب، بل تحدثت الصحافة الأوروبية أيضًا عن رفض واشنطن اتفاق «باريس» بشأن المناخ، ونقل السفارة الأمريكية إلى «القدس»، وكلها قرارات اعتبرها السياسيون الأوروبيون أحادية الجانب وتعنى ضمنيًا تهميشًا للدور الأوروبى. المجلة الألمانية «دير شبيجل»، اعترضت بشدة على سياسات «ترامب»، ونشرت غلافًا يهين الرئيس الأمريكى بإشارة يدوية بذيئة، ووضعت صورة كرتونية لترامب فوق اليد، وكتبت بجانبها: «وداعًا «أوروبا»، وكأن «ترامب» هو من يقولها، فى إشارة لاتخاذه قرارات فردية. ومن جانبهم رفض رؤساء، ورؤساء وزراء أوروبيون قرار «ترامب»، مؤكدين اتفاقهم على استمرارية المفاوضات مع «إيران»، وفقًا لما نقلته أغلب صحف العالم، مثل: «ميركل» التى قالت: «تناولنا مسألة الاتفاق الإيرانى، والجميع فى الاتحاد الأوروبى يوافقون على أن هذه الصفقة ليست مثالية، لكن يجب أن نتمسك بها، ومن الضرورى التفاوض مع «طهران»»، بينما صرح «ماكرون» بأن الاتحاد الأوروبى يريد العمل للحفاظ على الاتفاقية القائمة، حتى يمكن لشراكتنا أن تبقى فى الأعمال التجارية فى إيران». كما نشرت جريدة «إكسبرس» تصريحات رئيس المجلس الأوروبى «دونالد تاسك» فى اجتماع لزعماء الاتحاد، والذى قال: «اتفقنا بالإجماع على أن «الاتحاد الأوروبي» سيبقى فى الاتفاق، طالما ظلت «إيران» ملتزمة به، بالإضافة إلى إعطاء اللجنة الضوء الأخضر، لتكون جاهزة للعمل، كلما تأثرت المصالح الأوروبية». «تاسك» سبق واتهم إدارة ترامب ب«الحازمة المتقلبة» قبلها بأيام قليلة، عندما قال للصحفيين: «المشكلة هى أن صديقك المقرب صار لا يمكن التنبؤ به الآن، إنها ليست مزحة، وهذا جوهر مشكلتنا الآن مع أصدقائنا على الجانب الآخر من المحيط الأطلسى». وأضاف أنه فى استطاعة الاتحاد أن يتفق مع ما قاله «ترامب»، بأن عدم القدرة على التنبؤ، يمكن أن يكون أداة مفيدة جدًا فى السياسة، لكنه علق بأنه من المفترض أن تنفذ خطته تلك ضد الأعداء والمعارضين فقط، وليس مع الأصدقاء والعائلة. ومن جانبه حذر وزير المالية الفرنسى «برونو لو ماير» -حسبما نشرت جريدة «جارديان»- من أن مقترحات الرئيس الأمريكى لتحويل «أوروبا» إلى مجرد سياسة خارجية «للولايات المتحدة»، خاصة تجاه «إيران»، قد تؤدى إلى رد فعل عنيف من قبل الشركات، والسياسيين الأوروبيين. قائلًا: «علينا أن نعمل فيما بيننا فى أوروبا للدفاع عن سيادتنا الاقتصادية الأوروبية». وطرح 3 مقترحات رئيسية لتفادى عقوبات الإدارة الأمريكية، بدءًا بقانون حظر شامل على مستوى الاتحاد الأوروبى، شبيه بقانون «الاتحاد الأوروبى»، الصادر عام 1996، والذى يهدف إلى إلغاء أى عقوبات أمريكية مفروضة على شركات الاتحاد الأوروبى. يسمح النظام الأساسى للشركات الأوروبية بتجاهل العقوبات الأمريكية، فقال «لومير»، إن: «أية قرارات من قبل محاكم أجنبية تستند إلى مثل هذه العقوبات، لن يتم دعمها فى أوروبا». كما أوضح أن هناك طريقًا آخر وهو النظر إلى فكرة الاستقلال المالى لأوروبا، مضيفًا أن أحد المقترحات، هو إنشاء بيت تمويل أوروبى للإشراف على اليورو. وأخيرًا اقترح إنشاء وكالة أوروبية قادرة على متابعة أنشطة الشركات الأجنبية، فأوضح «لو مير» إنه سيجتمع مع وزيري المالية الألماني، والبريطاني فى نهاية الشهر لمناقشة هذه المقترحات. لم يتوقف الأمر عند التصريحات الاقتصادية فقط، بل امتد للأمنية أيضًا، لكن نتيجة لأن التصريحات الأمنية توضع داخل إطار التهديد، فجاء التصريح من قبل رئيس وزراء فرنسى سابقًا بعد إعلان «ترامب» بأيام قليلة فى موقف ذكى محنك، إذ نشر موقع «آى ويتنيس نيوز» تصريحات لرئيس الوزراء الفرنسى الأسبق «دومينيك دو فيلبان» ذو التأثير على الرأى العام، قال فيها إنه يتعين على «إفريقيا، وأوروبا» الوقوف معًا لمواجهة التهديدات، والتحديات، التى تفرضها «الولاياتالمتحدة» فى عالم أحادى القطب، قائلًا: «العمود الفقرى للعالم ليس قويًا بما فيه الكفاية ليتحمل مثل هذه التحديات على الإطلاق، لذلك نحن بحاجة إلى تعزيز قوانا»، مشيرًا إلى أن فرنسا قد تستعد لخطوة من هذه النوعية. رغم التصعيد الأوروبى، إلا أن اعتماد «أوروبا» على «الولاياتالمتحدة»، خاصة فى مجالى الأمن والاقتصاد أمر مهم، وربما لن يجدوا بديلًا آخر بسهولة فى المستقبل القريب، لذلك تعرف الإدارة الأمريكية من جانبها، كيف تلعب بورقة الضغط الاقتصادية على «أوروبا» دون قلق، فعلى سبيل المثال –لا الحصر- فى العام الماضى، بلغ إجمالى الصادرات الألمانية إلى «إيران» ما يقرب من 3 مليارات دولار، بالمقارنة مع صادراتها البالغة 111 مليار دولار إلى «الولاياتالمتحدة»، فى مثل هذه الظروف، ستفضل الشركات الألمانية عدم تحمل مخاطر الانخراط فى الأعمال التجارية مع إيران، وربما يكون هذا هو السر أيضًا وراء تصريح «ميركل»، الخميس الماضى، بعد محادثات أجرتها مع رئيس مجلس الدولة الصينى «لى كه تشيانج»، بأن: «العقوبات من المحتمل أن تقود إلى اضطرار بعض الشركات الأوروبية لمغادرة إيران، معربة عن أملها أن يكون بمقدور الشركات الصينية، ملء الفراغ الذى ستخلفه الشركات الأوروبية إن انسحبت»، وبالطبع ليست ألمانيا وحدها المتورطة فى هذا الأمر، لذلك يبدو أن كل ما يقوم به الاتحاد الأوروبى مجرد لفت نظر، أو إنذار للإدارة الأمريكية التى بدأت تتناسى حلفاءها، وتستعرض قواها وتنفرد بقراراتها.