حين توقف المطر كنت مقيدة بالسلاسل فى إحدى مواسير المطبخ وقد تلطخ كل جسمى بالدماء والكدمات نسيت أن أحمل معى كتاب لأقرأه فتركت لعينى أن تتجول بين المسافرين بدت لى ملامحها مرهقة شعرها مبعثر قليلاً قمحاوية البشرة طرحت ذراعها على مسند الكرسي ظهرت علامات خياطة على المعصم وجروح فى ذراعها أخفت الملابس ما أخفته منها هى جارتى فى المقعد 43 فى القطار المتجه من القاهرة إلى الأسكندرية كانت غارقة فى نوم عميق نقر على صندوق التذاكر هكذا يعلن الكمسرى عن قدومه أظهرت تذكرتى وصاح الكمسرى بصوت جهورى «تذااااكر» ليوقظ الجميلة النائمة استيقظت فى انزعاج وقلبت فى أشيائها بحثا عن التذكرة أختفت التذكرة بعد جدال طويل بينها وبين الكمسرى عرضت خدماتي رفضت فى البداية لكنها قبلت اخيراً وشكرتنى حتى استغثت أكمل الكمسرى نقره وعبر. ... قالت فى انكسار «اسمى حنان مغربى اود أن اعرف اسمك وكيف الوصول اليك حتى أرد الدين» فقلت لها.. «على سبيل التعارف أسمى دكتور نجلاء على سبيل رد الدين فماعاذ الله فما من شىء يذكر ويحتاج أن يرد» قالت.. «حضرتك دكتوره» أجبتها بالإيماء وانا استعدل فى جلستى... «اذاً هى فرصة لأسالك عن سبب ما أعانى من حموضة مفرطة» قلت لها.. «حبيبتى أنا لست بطبيبة ولكنى دكتوره فى علم الاجتماع. أزور الإسكندرية من وقت لأخر لأحاضر فى بعض الجمعيات الأهلية ومراكز علاج الأدمان والمدارس الخاصة» لاحظت بريق عينيها حين نطقت بكلمة أدمان فقالت... «وبماذا تحاضرين عن الادمان» قلت لها.. «العلاقات الانسانية وأثر الأدمان فيها، تأثير الأدمان على أداء المدمن فى العمل، دور الأسره فى رعاية المدمن وهكذا.. يعنى». - «هراء» - «استميحك عذراً.. ماذا تقصدين» - «اقصد أن كل العناوين هراء. أنا اقول لك ما هو المعنى الحقيقى للإدمان» مزيد من الاستعدال فى جلستى ونظرت اليها وكلى آذان صاغية فربما تقول لى شيئا اضيفه الى رصيد معلوماتى. شمرت عن ساعدها الأيمن فأظهرت كيا بالنار بدا لى أنه قديم جداً قالت.. «هكذا كان يتعامل أبى مع ما أرتكبته من هفوات فى صغرى» ثم كى آخر فى بطن قدميها، وآخر فى ساقها، وآخر عند اذنها اليسرا، وأخيرا أثر أنياب حادة أعلى كتفها كان يرى أن ذنبه الوحيد فى الحياة هو خلفتى، خلفة البنات فى ثقافته عار. أخوتى جميعهم ذكور وأنا الغلطة الوحيدة التى ارتكبها تداركت امى إفراطة فى عقابى وكسره لضلعى فشعاره الدائم أكسر للبنت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين. تداركت أمى هذا واغدقت على بالحنان والمال والتساهل فى حسابى. بل أكثر من ذلك كانت تغطى على أكاذيبى وخروجى وإستهتارى الذى كان نوعا من العقاب الموجة لأبى على إذلالى وتعنيفى الدائم وغير المبرر. هكذا نشأت بين الماء والنار أخوتى الصبيان كنت لهم كائناً شفافاً لا يرونه طوال الوقت، وفى هذه الظروف التقيت به.. «طارق كراك» هذا اسمه ولقبه.. تورطت فى علاقة حب غير بريئة معه، وحين بدأ ضميرى يشتكى علىًّ، خدره بالكراك. ... اتعرفين ما الكراك؟ اجبتها بالإيجاب فطبيعة عملى كمهتمة بالعلاقات الانسانية فى حياة المدمن تجعلنى أعلم أن «الكراك» هو الكوكايين المقطر بالتكسير، يطلق عليه المدمنون أسم «كراك» لان رواسب بيكربونات الصوديم الموجودة فى الصخريات تحدث فرقعة عند التدخين قائلة «كراك.. كراك» استرسلت حنان.. دامت علاقتى به شهورا قليلة قبل أن يفتضح أمرى فى منزلنا خلال هذه الشهور القليلة كنا نستبدل بضاعتنا سويا...الجنس مقابل «الكراك» إلا أن هذا الاستبدال كان بأسم الحب. فى مساء ممطر دخل أبى المنزل فى تجهم، قدماه موحلة بالطين وفى يده «جنزيرعجله» قديم وسلاسل كنا قد اعتدنا ربط الكلاب بها فى بير السلم. قال.. «فين البت»؟ اجابت امى.. «خير.. ياحنان ياحنان... ابوكى عايزك» لم اكن قد استجمعت المشهد حتى فاجئنى «الجنزير» بلسعة كما من جهنم، وقبل أن أدرك ما حدث جائتنى الضربة الثانية ثم الثالثة تخلت أمى عن اندهاشها وصاحت.. «الحقونى ياناس.. هايموت البنت» نابها من «الجنزير« جانب حين توقف المطر كنت مقيده بالسلاسل فى أحدى مواسير المطبخ وقد تلطخ كل جسمى بالدماء والكدمات أدركت أن أبى عرف كل شئ.. ودارت المداولات أمى تصرخ.. «نعالجها» وأخوتى لا يتورعون فى إقتراح الذبح ولا مين شاف ولا مين درى. أبى صامت.. حاولت أمى أن تستجدى حياتى أن تغلب دموعها وتُذكر أبى بأبن المعلم أمين.. «فاكر لما ودوا الواد بيت علاج.. وهو.. وهو دلوقت بقى زى الفل» صرخ فى وجهها.. «دا كان واد... انما دى «مَرَه» قالت امى.. «ابوس على ايدك.. نلمها ونسترها.. حرام عليك.. ربنا هايحاسبك.. دى برضو روح..» أستسلم أبى لتوسلات أمى ودموعها وصم أذنيه عما كان أخوتى الصبيان يقترحونه. تبرزت وتبولت فى مكانى.. عشرة أيام ممنوع فكى من ماسورة المطبخ. من وقت لآخر تسترحمنى أمى وتستعطفنى أن أكل شيئاً. تعتصر عضلاتى فى نوبات تشنج طالبة «الكراك».. يفصلنى احتياجى للمخدر عما يدور فى منزلنا. تناولت السكين الذى طالتة يدى فى أحدى النوبات ولم أتردد فى قطع شريانى بأصرار وجراءة المتأكد من صواب قراره» «شاى.. قهوة..نسكافية.. حاجة ساقعة.. ببسى» استوقفت عامل البوفية وطلبت لى ولها أثنين قهوة على الريحة. مع رائحة القهوة الزكيه سألتها.. «حنان.. لماذا تقصين على حكايتك وأنا غريبة» قالت.. «بالظبط كدا.. لأنك غريبة أنا أحكى دون حرج.. أحتاج أن يسمعنى أحدهم دون أن يلومنى.. دون أن يعظنى أو يوبخنى.. أحتاج وجه جديد.. ربما لو لم أقص عليكى.. ربما لصاحبت عامل البوفية وأستعرت أذنه» اكملت.. «توقفنا عند محاولة الانتحار.. وماذا بعد»؟ قالت.. الغريب أنهم أنقذونى وربما فعلوا ما هو أكثر حتى يخففوا وطئة غياب مادة «الكراك» من دمى، كنت مشوشة وقتها ولا أذكر تفاصيل الأيام اللاحقة لإنتحارى ولكن.. عاد البيت هادئا وكأن شئ لم يكن، وتظاهر الجميع بأن شيئا لم يحدث حتى فاجئت أمى بخبر فقدانى عذريتى.. تجرعت أمى مرارتها ودبرت مبلغاً لإصلاح ما أفسدته رعونتى ورغبتى فى الإنتقام من أبى.. كنت أدفعها دفعاً لتقول له.. بل وأهددها بأننى سأفضح أمرى عنده، كنت أعشم فى إشباع رغبتى فى التشفى به وأنا أحطم رجولته وأضع رأسه فى الوحل فهذا ما كان يتنبأ به عنى، كنت أرغب فى أن اعلن له بالفم المليان عن أننى قد حققت له نبوءته عنى، لكن توسلات أمى أستوقفتنى وحرمتنى من رؤيته مكسوراً حتى وإن كان ذلك على حساب حرق جديد فى جسدى. سأل أحد ركاب القطار عامل البوفية العابر.. «كم تبقى من الوقت على وصولنا الإسكندرية» - «خمستاشر دقيقه يامحترم» ساد الصمت بيننا بينما عجلات القطار تأكل المسافة المتبقية أكلاً والفضول يأكل قلبى فسألتها.. - «وكيف انتهت قصتك»؟ - «هى لم تنتهى.. أسافر الى البحر لاخذ وقتاً مستقطعاً من مرارة أيامى ثم اعود لالقى بنفسى فى زحام العاصمة» - «اذا كيف سارت الامور فيما بعد»؟ - «اتدرين.. تزوجت.. وطلقت، فما تم من أحداث يوم الزفاف جعل زوجى يشك فى طهارتى.. بعد طلاقى خفت ضغطة أبى عليا، ربما أصابه اليأس منى، أوتدرين ماذا ايضاً... عاودت الألتقاء «بطارق كراك».. عدنا كما كنا. لكن هذه المره بلا حب.. هى المصالح.. أعرف الأن كيف أجمع المال، لا تسألينى عن باقى القصة، تعبت من السرد» ... ساد الصمت ولم تنبث بعدها ببنت شفة. أكلت عجلات القطار الطريق بأكملة قبل فراقنا سألتها.. «هل معك نقود»؟ قالت.. «اعرف كيف اجمع نقود» ... غادرت محطة سيدى جابر استوقفت تاكسى «هيلتون سيدى بشر لو سمحت» شعرت بأرهاق شديد وإنقباضة شديدة فى صدرى.. ماذا بى.. كنت أنتظر مشوار الإسكندرية بفارغ الصبر. كنت أرسم خططا لقضاء ليلة رائعة فى رحاب عروس البحر المتوسط. كنت أعشم فى أكلة سمك اسكندرانى طازجة. ماذا جرى.. ربما دش ماء ساخن سيزيل شعورى بالإرهاق والإنقباض. تحت الماء الساخن... حاولت إستجماع تفاصيل محاضرتى التى سألقيها غداً، لكن ذهنى بغير إرادتى يراجع تفاصيل قصة صاحبة المقعد 43. ما كان عليها أن تعود «لطارق كراك» ما كان عليها أن تتزوج. ما كان عليها أن تتورط حتى فقدان الشرف. ما كان عليها أن تنتقم من أبيها فى نفسها. ما كان على ابيها أن يعتبر خلفة البنات عار. انتابتنى هستيريا بكاء.. اختلطت دموعى بماء الدش الساخن كل ما سأقوله غداً..بلا بلا..وهراء.