مازلت أخاف من تأمل ملامحى فى المرآة لأنى ببساطة أوقن أن كلى مكون من خلايا؛ كل خلية هى صورة لهيئة حبيبتى؛ وكل خلية هى مولودة فى لحظة ما من لحظات حبنا اقترابا او ابتعادا؛ وأن ما قبلها من تجارب كانت مجرد تدريبات قامت بإعدادى كى اكون هذا العاشق؛ أما عنها فيكفينى قولها حبك غريب؛ فمنذ التاسعة عشرة وهناك قدرة إلهية تطعم هذا الحب وتسقيه؛ تحفظه بعيدا عن غضبى حين أقرر الفرار من قيود حبك، وما ان أبتعد قليلا حتى أرى لحمى يتساقط من هيكلى العظمى فأصبح هيكلا من فراغات تهتز بدوامات من صقيع. ............................ أما لماذا انتهت المسالة بابتعاد كل منا عن الآخر؛ فهذا ما تحكيه أوبرا تانهاوزر لفاجنر؛ أو موسيقى فيلم المحرج الموهوب بغير حد داود عبدالسيد وهو فيلم رسائل البحر؛ هذا الذى بدت موسيقاه قادمة من إلهامات جنون الصدق المختبئ خلف اكاذيب ايامنا الركيكة. وهى الموسيقى التى تصحب مشاعر عاشق بدت أشواقه عارمة لمجرد إحساسه بان دقات قلبه ليست سوى دقات خطوات امراة خلقتها السماء لتكون بيتا له؛ لكنه تاه منها فى زحام الضجيج الركيك المكون من ساعات اى نهار. واستطاع المتصوف راجح داود الذى لا نظير لولائه لهذا العطر النورانى المختبى فى كل قلب لحظة الابتهال؛ وهو ابتهال تتوجه غالبا لحظات صفاء تنبع من آلة الفلوت تلك التى أتصورها دائما مسافرة من ناى العم عبدالقادر الذى كان يشرف على ارض كل موظف له عمل قاهرى أو سكنرى او اى مدينة تبعد عن انشاص قرية أبى؛ ومعظم هؤلاء الموظفين يسندون رعاية ملكياتهم من الارض لعبدالقادر هذا المقيم بنفس كفر آل عامر بقرية ابى انشاص؛ وأمانة عبدالقادر جعلته سيد المساحة الشاسعة وهى ارض ابى وابناء عمومته من المتعلمين الذين لم يستمروا مقيمين بالقرية فقد أخذتهم الوظائف الحكومية متناثرين فى مدن المحروسة؛ ويجتمعون كل أبريل واكتوبر ليمنحهم عبدالقادر نصيب كل واحد منهم إما نصيبه من إيجار اراضيهم او نصف ما جادت به الارض من ثمن المحاصيل والزراعات إن كانت قمحا او قطنا. ولم يكن يخطئ فى قرش واحد من حق كل من اوكل له رعاية الأرض؛ غير هياب بالعيون المفتوحة عليه من بقية المزارعين الطامعين فى ازاحته من مهمة العناية باراضى الأفندية كى يقوموا هم بجنى الرزق الوفير هذا الذى يجنيه عبدالقادر الجالس فيما قبل صلاة الضحى وبعد صلاة العصر على رأس المساحة التى يرعاها ليعزف على الناى؛ ويقسم بالله الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم ان الزرع لا يرتوى بالماء والسماد فقط؛ بل الموسيقى هى التى تسهل للمياه والسماد الوصول إلى كل أنحاء كل نبته سواء اكانت قطنا ام قمحا او حتى نبات الكتان؛ وآه من طعم المانجو او الجوافة او حبة البلح إن كانت الموسيقى قد وصلتها فى الميعاد. والناى الذى يعزف عليه عبدالقادر هو الاب الشرعى لكل آلات النفخ سواء اكانت فلوت إيناس عبدالدايم او «الأبوا» التى عزف عليها عبدالحليم حافظ مهاراته الاولى إلى ان تركها إلى الغناء وهو من قال لى أثناء عزف بارع بملهى الليدو الباريسى « أتحداك إن لم يكن صوت هذا العازف قادرا على الغناء؛ فآلات النفخ بداية من الناى والمزمار والفلوت حتى السكسافون تدرب الإحساس على الظهور. وحين اردت مشاغبته قلت له «لكن ام كلثوم بجلالة قدرها لم تعزف على اى آلة نفخ». قال «ليتك كنت معى لتراها و هى تشع بالإعجاب بعزفى يوم امتحانى للقبول بفرقة الإذاعة». ومن المؤكد أن فى قريتها طماى الزهايرة عازف ناى كان يسكن بجوارها؛ فآلة النفخ تذيب العاطفة لتخرج مع الأنفاس التى تصور المعنى. ولم تكن كل تلك المعانى غائبة عن راجح داود المؤلف الموسيقى المبتهل كل ثانية للسماء الا تبخل عليه بقطرة من امطار الإبداع لتنمو من مشاعره جملة موسيقية تتواصل مع غيرها ليكون قادرا على بناء اوركسترالي؛ يتسلل عبر الاذن إلى القلب بعد ان يخرج من عناق آلات وترية وآلات نفخ وإيقاع لتتعانق اصواتها فتغسل الروح من أية ادران؛ وهذا ما همس به ثروت عكاشة لجمال عبدالناصر وهو يرجوه الاستماع للموسقى الكلاسيكية كى يبدد احزانه على نكسة يونيو لتوقظ فيه درجة التوازن الموزع للاهتمام بمواصلة بناء السد العالى بجانب إعادة بناء القوات المسحة؛ فلا نصر يولد ما لم يحيا المجتمع كفريق اوركسترالى يؤدى كل فرد فيه ما عليه من مهام. قال لى ثروت عكاشة أثناء يوم ربيعى جميل فى البيت الريفى لشقيقه سيد الطب النفسى المعاصر أحمد عكاشة؛ هذا البيت المطل على بحيرة التمساح بريف الإسماعيلية. قال لى ثروت عكاشة «لولا ان القوات المسلحة اتقنت مهمتها بجودة التدريب لما استطاعت أن تعزف سيمفونية النصر بعبور اكتوبر العظيم». القتال كالحياة إن أجدت فهم كل تفصيلة فيه وأدى كل فرد دوره المحدد له والمتدرب عليه؛هنا ياتى النصر الملهم. فكل عزف لكل تفصيلات الحياة يمنح نتيجة رائعة. وقد كنت فيما قبل ثورة يوليو أدعو جمال عبدالناصر وعدد من الثوار لبيتنا ويقوم شقيقى احمد بإدارة عصا الجرامفون لنستمع إلى الموسيقى؛ وأنت تعلم انى احب فاجنر هذا العاشق لتنويع جمله الموسيقية على آلات الاوركسترا لتصدح الموسيقى من الإسطوانة إلى جنبات الروح فتزيل الادران وتمنح الصفاءالشجاع لاقتحام المجهول, وأنت ان راقبت أداء عبدالناصر فى تكوين تنظيم الضباط الاحرار ثم كيفية تحويل كل عضو فى هذا التنظيم فيما بعد نجاح الثورة لعلمت أن عبدالناصر كان مايسترو بالفطرة. قلت ضاحكا «كأنك تجرد الرئيس السادات من قدراته على إدارة الوطن وصولا إلى تحرير سيناء». قال «اعوذ بالله من ذلك ولكن علينا ان نعلم ان عبدالناصر قد اعد هذا الوطن لصناعة النصر عندما اوكل لعبدالمنعم رياض مهمة الإعداد القتالى وأوكل مهمة الضبط والربط للفريق محمد فوزى؛ ثم وهبتنا ارض مصر الطيبة قدرات الفريق سعد الشاذلى الذى درب كل فرد مقاتل على مهمته بالضبط وقام عبدالغنى الجمسى بتقديم صورة دقيقة لمسرح العمليات سواء لخريطة خط بارليف او لتموجات المد والجزر بمياه القناة». لولا ذلك لما كان النصر العظيم الذى تحقق بمعدات تقل عن معدات الخصم سواء فى الطيران او المدفعية؛ فقوة نيران الخصم كانت تستند إلى اقوى قوة نيران على ظهر الارض وهى قوة نيران الولاياتالمتحدة لكن لم يكن الخصم ممتلكا لكيفية العزف الاوركسترالى بالأسلحة المختلفة كالتى امتلكها الجيش المصرى. ولو كان الجيش السورى على نفس درجة الإتقان لامتلكنا هزيمة إسرائيل على الجبهتين, اضحك لثروت عكاشة قائلا: عرفت الآن كيف كان ليتشاور أول مايسترو استقدمه انت ليؤسس اوركسترا القاهرة السيمفونى؛ كان ليتشاور يزور بنسيون مدام كيتى المواجه للإيموبليا ليسأل مدام كيتى عن كيفية تدرب ستة عازفين كانوا يقيمون بالبنسيون ويطلب منها ان تراقب ساعات تدربهم ويهبها عدة جنيهات شهريا لمتابعة تدربهم. وعندما كنت اشكو لها الضجيج الخارج من حجراتهم وانا المقيم بنفس البنسيون كانت تقول لى «انا خفضت لك ثلاثة جنيهات من إيجار الغرفة بسبب تلك التدريبات وإن كانت تزعجك يمكن نقلك الى الشقة المقابلة ففيها غرفة معزولة لن تسمع فيها اصوات التدريب». وحين جاء حفل أوركسترالى لموسيقى راجح داود أسرعت بطلب تذاكر للحضور؛ لعلى أشفى من تذبذب ضغط الدم المتقلب مع ذبذبات درجة حرارة الجو المنتقل من الشتاء إلى الربيع؛ وإذا كان راجح داود قد أهدى الحفل المخصص لموسيقاه؛ لإيناس عبدالدايم لما قدمته من رعاية ومتابعة من لحظة توليها مسئولية الأوبرا؛ فالكل يشهد أن المنصب الوزارى اقترب منها بعد ايام من ثورة الثلاثين من يونيو بعد اعتصام المثقفين الذى شاركت فيه الأوبرا برفصات زوربا؛ يومها قالت إيناس عندى عمل فى الأوبرا لابد ان أتمه وهو ضبط تماسك الفرق التابعة لها. فقد كانت تهتم بإتقان مهامها ولا تغادر موقعا إلا امامه مستقبل مفتوح ومعبدبالإتقان. وبحكم الزمالة بين أستاذ التاليف الموسيقى راجح داود وفهمه لقيمة التواضع امام اى عمل لذلك تذكر التاريخ الطويل لتنقل إيناس بين مواقع إدارية فى اكاديمية الفنون. وطبعا لابد لنا ان نعلم ان صفاء نفس راجح داود قادم إليه من والده أستاذنا الصحفى سامى داود الذى راس إدارة تحرير جريدة الجمهورية فى اوائل الستينيات ولم يكن الشاعر كامل بك الشناوى رئيس التحرير ايامها يثق فى طاقم إدارة التحرير إلأا إذا كان سامى داود قد وافق على موسيقى ترتيب الصفحات؛ وكان كامل بك الشناوى يقول لنا إن جاء مبكرا لسهرته اليومية بكافتيريا سمير أميس «مادامت سهرة طباعة العدد فى يد سامى داود فتوازن ترتيب الصفحات بموضوعاتها سيكون على ارقى مستوى ممكن. وبادب كامل بك الشناوى كان قادرا على منع أى تدخل من أنور السادات المشرف على الجربدة؛ تطبيقا للقول الشائع «اترك تسوية الخبز لمن يصنعه». ومنصب مدير التحرير هو منصب صانع الخبز. وانجب سامى داود ابنه راجح الذى وهبه لدراسة التاليف الموسيقى بموسكو. وهى اصعب دراسة فى الاكاديميات الموسيقية؛ فإذا كانت التلقائية هى الاساس للتاليف الموسيقى؛ فصقل هذه التلقائية وتخصيص كل همسة فيها لآلة محددة؛ فهذا الامر الشاق والصعب؛ فتحديد مهمة الوتريات وآلات الإيقاع او آلات النفخ؛ فهذاعمل صعب؛ فكيف تتزاوج أصوات الآلات لتنسج الاحاسيس وتلك مهمة تركها محمد عبدالوهاب للموزع الموسيقى اندريه رايدر؛ بينما اصر رياض السنباطى على ان يقوم بهذا العمل بنفسه؛ هذا فى الموسيقى الشرقية؛ أما الموسيقى الاوركسترالية فكل مقطوعة هى بناء متكامل لذلك كان أبو بكر خيرت مؤسس اكاديمية الفنون يرفض إسناد هذا العمل إلا لمن قام بالتأليف وتوافق معه فى هذا الامر الاستاذ الدكتور طارق على حسن أستاذ امراض الباطنية الخاصة والمؤلف الموسيقى الذى تعزف موسيقاه اوركسترا فينا؛ وهى الاوكسترا المتربعة على عرش العزف الاوركسترالى. وطارق على حسن هو المؤسس الذى اسند له الفنان فاروق حسنى إدارة الأوبرا وإعادة تاسيس اوركسترا مصرية العازفين. مع ضبط جداول التدريب؛ فمنذ حريق الأوبرا الكبرى فى اوائل السبعينيات تذبذب مستوى العزف انجرافا إلى الحضيض؛ ولم تفلح محاولة السادات لتطوير مسرح الجمهورية ليكون بيتا للموسيقى؛ إلى ان تولى فاروق حسنى مسئولية الثقافة وتسلم المبنى الجديد للاوبرا الذى اهدته لنا اليابان. ولم تكن عين فاروق حسنى غائبة عن رؤية الصراع بين من يشرفون على الموسيقى؛ فاستدعى طارق على حسن ليتولى إعادة التاسيس بداية من اختبارات كل عازف وصولا إلى ضبط مواعيد البروفات وتقييم كل عازف؛ واهدانا الفريق أول يوسف صبرى ابو طالب إبان توليه منصب القائد العام للقوات المسلحة؛ اهدانا لواء له يد من حرير وحديد ليعاون طارق على حسن فى ضبط العمل المتهرئ بالفرق التابعة للاوبرا. فيوسف صبرى ابو طالب هو واحد من ابرز قادة المدفعية؛ هذا السلاح الدارس لآفاق علوم الرياضيات والذى قام بإعادة تأسيسه الفريق عبدالمنعم رياض الدارس للرياضيات والعارف بان الأسلحة المختلفة هى فريق اوركسترالى تعزف سيمفونيات من تحويل احلام الشعوب إلى وقائع انتصار. أهدانا يوسف صبرى أبوطالب اللواء رشيد يوسف ليتولى المسئوليات الإدارية بالأوبرا؛ فاجاد الرجل تقديم الاحترام العميق لكل من يتعامل معه؛ مع ضبط الأداء ومواعيد التدريبات لكل عضو فى فرقة تتبع الاوبرا. وكنت أيامها مستشارا ثقافيا بالاوبرا؛ اشترك بالرأى حين أرى هذا ضروريا؛ ثم جاءتنى رحلة لنيويورك لحضور سلسلة نقاشات تحت عنوان «الحب والكراهية.. رحلة إدارة موسيقى الحياة» فتركت العمل بالاوبرا لكى أعيد ترتيب أفكارى عن جوهر الحياة من حب وكراهية. وبعد ان عدت طلب منى فاروق حسنى تأسيس مطبوعة ربع سنوية لما اراه فى دنيا الفنون؛ وكنت أعالى ضيقا من عدم وجود ثقافة بصرية تستوعب فن العمارة وفن الموسيقى وكيفية رؤية التاريخ؛ ثم علاقتنا نحن المصريين بالموسيقى. وأشهد أن حماس جابر عصفور للمجلة أن كتب عن عددها الاول دراستين بالأهرام واستقبلها فاروق حسنى بكل عناية واهتمام. وظلت لسنوات ثلاثة عشر فى قلب اهتمام من تولوا منصب الوزارة؛ إلى هبط ترهل جسيم مصحوب بارتجاف فى الرؤية فتوقفت المطبوعة عن الصدور. لكن التلفون دق لأجد صوت إيناس عبدالدايم يطلب منى إعادة إصدار فنون مصرية بعد أن ناقش وكلاء الوزارة غياب هذا المستوى من البشارة بالفنون الرفيعة.. قررت ان أسأل ثلاثة ممن يعملون تحت قيادة إيناس عن منهجها؛ قال لى المهندس محمد أبو سعدة «من قامت بصيانة الموسيقى بفرقها تعلم أن القيادة هى اقتراب حميم مع الاحتفاظ بمسافة». قال لى أستاذ الانثروبولجى الكبيرسعيد المصرى تلميذ من علمنى فنون دراسة السلوك والعادات الأستاذ العظيم أحمد أبو زيد قال سعيد المصرى ليس من حقك التوقف عن هذا العمل خصوصا وانت دارس ومستمع للاوركسترا السيمفونى ود. إيناس لها اقتراب ممن يعملون تحت قيادتها باسلوب المايسترو الفاهم المدقق لكل تفصيلة. قال لى د. هيثم الحاج «أعلم انك كنت تطبع المجلة خارج مطابع الوزارة لكنا الآن نملك ما لا تملكه مطابع القطاع الخاص وهيا نعيد المطبوعة التى اهتز لها وجدان جابر عصفور وصابر عرب وصان صدورها كل حريص على ضبط إيقاع الرؤية فى محالات العمارة والآثار والموسيقى واللوحات وهى مجالات تعدها إيناس عبدالدايم جوهر الحياة يوميا». الآن أحاول استعادة التنفس بثقة لتكون «فنون مصرية» لا كمطبوعة بين ايديكم فقط ولكن ان تكون ايضا على اليوتيوب, بالحب الذى نبع من قلب ثروت عكاشة وهو يرحب بالمجلة وبالثقة التى كان فاروق حسنى يشكرنى بعد صدور كل عدد وبعتاب صابر عرب لان المجلة لا تصل لطلبة الفنون الجميلة والمعاهد الموسقية؛ بلمسات التشجيع الذى بلا نهاية والذى قدمه ويقدمه صديقى جابر عصفور؛ بكل ذلك ها انا اذيب وقتى فى إعادة إصدار مطبوعة تشرح لكل قصة حب الحق فى بيت بعد دراسة التاريح وتدريب كل اذن على مسئولية عزف الحياة بلا ركاكة؛ هاهو وقتى يتلاحق فى إعادة إصدار مطبوعة تشرح لكل قصة حب الحق فى بيت بعد دراسة التاريح وتدريب كل اذن على مسئولية الاستقالة من ترك الوجدان للرث من الانغام. دعواتكم أحتاجها. لمزيد من مقالات منير عامر