ليست هذه المقالة تقريراً عن سير العمليات العسكرية الجارية الآن على الأرض الليبية التى بدأها الجيش الوطنى الليبى بهدف تحرير العاصمة الليبية من هيمنة الميليشيات الإرهابية, وهو هدف يمثل حال إنجازه خطوة جبارة فى إعادة بناء الدولة الليبية، ذلك لأن مجريات القتال معرضة للتغير بين وقت وآخر, لكن المهم هو وضع نقاط فوق الحروف بخصوص الصراع الدائر حالياً، والذى يكتسب أهمية فائقة نظراً لمكانة ليبيا فى إنتاج النفط التى ترتب مصالح دولية ظاهرة وكذلك موقعها الاستراتيجى الذى يجعلها ورقة مهمة فى الصراع الدولى, الذى استعاد خاصية الحرب الباردة بين أقطاب النظام العالمى بالإضافة إلى المصالح الأكيدة لقوى إقليمية, بعضها كتركيا وقطر يتبنى مشروعاً يهدد الاستقرار فى المنطقة, وبعضها الآخر حريص على أمنه كمصر ودول جوار ليبيا، وثمة ثلاث ملاحظات رئيسية على ما يجرى الآن على الأرض الليبية. وتتعلق الملاحظة الأولى بأطراف الصراع التى يمكن تصنيفها إلى طرفين محليين رئيسيين لكل منهما أنصاره من القوى الإقليمية والكبرى, أولهما الجيش الوطنى الذى يرفع شعار إعادة بناء الدولة الوطنية الليبية ونجح فى تحقيق خطوات مهمة فى هذا الصدد, والثانى هو حكومة الوفاق المعترف بها دولياً بحكم استنادها إلى اتفاقية الصخيرات التى يوجد ما يشبه الإجماع على أنها لم تعد ملائمة بصياغتها الحالية كآلية للتوصل إلى حل سياسى ومن هنا جهود تعديلها التى لم تفلح حتى الآن، والأهم أن هذه الحكومة مدعومة من ميليشيات مسلحة إرهابية تدعمها تركيا وقطر بالتواطؤ مع قوى دولية، وقد يكون مفيداً هنا الإشارة إلى الاستقالة الأخيرة لنائب رئيس المجلس الرئاسى الذى اتهم السراج رئيس حكومة الوفاق الوطنى بأنه أداة طيعة فى أيدى الميليشيات, وأشاد بتقدم الجيش الوطنى الليبى فى طرابلس، وهو ما يفيد بوجود قاعدة مؤيدة للجيش الوطنى أكدها استقبال السكان له فى محطاته السابقة على طرابلس كما فى مدينة غريان التى حررها دون قتال ووجود أنصار له داخل طرابلس ذاتها, كما يظهر من مطالبة وزير داخلية الوفاق مسئولى وزارته بموافاته بأسماء المتعاونين مع الجيش الوطنى، كما أن آمر غرفة عمليات المنطقة الغربية أوضح أن هناك تنسيقاً مع تشكيلات مسلحة داخل طرابلس بانتظار دخول الجيش للانضمام إليه, وكشف عن أن هناك مجموعة أمنية فى طرابلس تسلم أسلحتها وعتادها للجيش الليبى، وبالنظر إلى ما سبق ينبغى ألا يكون هناك تردد فى الانحياز للجيش الليبى رغم أى ملاحظات قد ترد على تكوينه وأدائه. أما الملاحظة الثانية فهدفها تفنيد بعض المفاهيم الملتبسة فى سياق المعركة الحالية، وأولها أن عملية الجيش الوطنى فى طرابلس تهدد الاستقرار السياسى! فأى استقرار سياسى يقصدون؟ وهل هو استتباب الأمر للميليشيات الإرهابية التى تقتتل فيما بينها من حين لآخر؟ وبهذا المنطق فإن تحرير العراق وسوريا من داعش يعتبر تهديداً للاستقرار، والمفهوم الثانى أن عملية الجيش الوطنى فى طرابلس تتم ضد الشرعية على أساس أن حكومة الوفاق تحظى باعتراف دولى نتيجة استنادها إلى اتفاقية الصخيرات التى سبقت الإشارة لقصورها، والأهم هو تحالف الحكومة مع الميليشيات وعدم تحركها قيد أنملة على طريق استعادة الدولة الليبية، ناهيك بأن الجيش الوطنى ليس كياناً لقيطاً وإنما تستند شرعيته بدوره إلى حكومة ومجلس نواب منتخب، أما المفهوم الثالث فهو أعجب المفاهيم وقد أُثير فى سياق حوار جرى فى ال «بى بى سى» العربية كيف فيه أحد المتحاورين الصراع الدائر بأنه بين قوى الدولة المدنية الديمقراطية قاصداً بها حكومة الوفاق، وقوى العسكر أى الجيش الوطنى، وهو تكييف يثير الضحك لأن حكم الميليشيات الإرهابية أو على الأقل نفوذها المسيطر على حكومة الوفاق أصبح مساوياً للحديث عن دولة مدنية ديمقراطية غير موجودة ،فيما يوصف الجيش الذى يسعى لاستعادة الدولة بأنه حكم العسكر. وتبقى الملاحظة الأخيرة حول المواقف الدولية تجاه التطورات الأخيرة، وقد تعودنا أن تجئ هذه المواقف من الصراعات العربية الراهنة على نحو يثير الشبهة، فطالما أن الأمور مستتبة لصالح قوى الإرهاب أو تفكيك الدولة تكون الأمور على ما يرام، وبمجرد ظهور مؤشرات على احتمال استعادة الدولة عافيتها تقوم قيامة الأطراف الدولية صاحبة المصلحة، وقد سبق أن رأينا هذا فى معارك تحرير حلب وغوطة دمشق وكذلك فى معركة تحرير الحديدة، وعادة ما تكون ذريعة الاعتراض على هذه المعارك هى الاعتبارات الإنسانية بمعنى الخوف من أن تتسبب المعارك فى مزيد من الخسائر البشرية، وكأن هذه الخسائر لا تقع فى كل لحظة فى ظل استتباب الأمور للإرهابيين والانقلابيين. ألم تتسبب الأوضاع الخاطئة المستتبة فى اليمن فى كوارث الأوبئة والمجاعات؟ وهل ننسى ما حدث فى العراق وسوريا وغيرهما على أيدى داعش؟ فلماذا يتعين علينا أن نقبل استمرار هيمنة الميليشيات الإرهابية فى طرابلس وغيرها بذريعة الحفاظ على الاستقرار ومراعاة الاعتبارات الإنسانية المفتقدة أصلاً بما فيها حق الحياة نفسه حيث يسيطر الإرهابيون، وفى المعركة الراهنة لاحظت أن ردود الفعل الدولية بدت أكثر هدوءاً تتحدث عن ضبط النفس وتجنب التصعيد والحرص على الحلول السياسية، وربما يرجع هذا الاعتدال إلى التحسب لانتصار الجيش الوطنى ومن ثم الإضرار بمصالح الأطراف الدولية حال تبنيها مواقف واضحة، غير أن الموقف الأمريكى المعارض لعملية الجيش الوطنى سرعان ما اتضح بعد فشل محاولة إصدار بيان من مجلس الأمن يدعو حفتر تحديداً لوقف هجومه على طرابلس بفعل الموقف الروسى، وعادة ما تُبَرر المواقف الدولية الانتهازية بأنها بدافع الحرص على الحل السياسى الذى لم تظهر أى بادرة على نجاحه طيلة السنوات الماضية فى ظل الأوضاع القائمة التى يحاول الجيش الوطنى تحريكها فى معركته الراهنة. لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد