التقارير لم تتوقف طوال الأسبوع الماضي عن هبوط طائرات شحن عسكرية روسية في مطار سيمون بوليفار قرب العاصمة الفنزويلية كراكاس، وعن رصد الأقمار الصناعية الأمريكية نشر صواريخ إس 300 بطواقم تشغيل روسية، وتحليق طائرات السوخوي والقاذفات الاستراتيجية. فقد تكرر في فنزويلا ما حدث لإدارة أوباما عندما فوجئت بالتدخل العسكري الروسي القوي في سوريا وانتشارها السريع عام 2015، واشتراكها في قتال الجماعات المسلحة، فأصيبت إدارة أوباما بالشلل، لكن يمكن فهم دوافع روسيا للتدخل القوي في سوريا، فهي تخشي من تقدم الجماعات التكفيرية إلي جنوبروسيا، لكن فنزويلا تبعد آلاف الأميال عن روسيا، وليس فيها جماعات مسلحة ، فما هي دوافع موسكو للإقدام علي تحريك قواتها لهذه المسافة الطويلة؟.. عقد مجلس النواب الأمريكي إجتماعا عاجلا وأصدر قانونا يطلق يد الرئيس ترامب في التصدي للوجود الروسي في فنزويلا، ورغم الخلافات العنيفة بين مجلس النواب بأغلبيته الديمقراطية المناوئة لسياسة ترامب فقد منح ترامب التفويض خلال جلسة لم تستغرق أكثر من 40 دقيقة، بعدها خرج ترامب ليحذر الروس ويدعوهم إلي مغادرة فنزويلا، ملوحا بأن كل الخيارات مفتوحة. لا تتحمل إدارة الرئيس ترامب ضربتين متتاليتين في الرأس من روسيا، ورغم أن ترامب قد حصل علي انتصار معنوي بصدور قرار براءة حملته الإنتخابية من العلاقة مع روسيا، وسقوط تهمة التواطؤ مع الروس في التأثير علي نتائج الإنتخابات الرئاسية، فقد كان تحذير ترامب شديد اللهجة، وطلب من روسيا سرعة الخروج من فنزويلا، لكن لا يمكن تصور أن كل هذا العتاد الروسي ومئات الجنود والضباط يرحلون لمجرد بيان أطلقه ترامب، وجاء الرد الروسي شديد الاستفزاز، ووصف التصريحات الأمريكية بأنها وقحة، وتتعمد خرق القوانين الدولية، مشيرا إلي أن القوات الروسية جاءت وفق اتفاقيات مع الحكومة الشرعية منذ عهد الرئيس الراحل هوجو تشافيز وتواصلت مع الرئيس مادورو. تعرف الولاياتالمتحدة أن معركة فنزويلا هي الخطة (ب) لمعركة سوريا التي أعلنت رسميا عن خسارتها بقرار الانسحاب من شرق الفرات، وأن السيطرة علي النفط والغاز هو الهدف الأكثر أهمية لكل من الولاياتالمتحدةوروسيا، فالإدارة الأمريكية تريد أن تخنق روسيا عبر حرمانها من عوائد النفط والغاز لتغرق في أزمة اقتصادية تشل حركتها، وتمنعها من التفكير في مواجهة القوات الأمريكية في أي مكان، وإن كانت قد فشلت في الشرق الأوسط وفي القلب منه سوريا، فإنها يمكن أن تستخدم الاحتياطي النفطي الضخم في فنزويلا لتتحكم في سوق وأسعار النفط، ويمكن أن تغرق السوق العالمية بالنفط الرخيص لتنهار الأسعار، لتهز إقتصاد خصومها في روسيا وإيران، ولهذا كان تحضيرها لرئيس بديل لمادورو هو خوان جوايدو، ولوحت بالتدخل العسكري، إلي جانب تشديد الحصار الإقتصادي علي فنزويلا، التي تعرضت لهجمات علي محطة الكهرباء الرئيسية واغرقتها في الظلام والشلل. لا يمكن لروسيا أن تسلم رقبة إقتصادها إلي الإدارة الأمريكية في فنزويلا بعد أن تمكنت من حمايتها في سوريا، وهذا يعني أن القوات الروسية باقية، وربما تتضاعف إذا ما رصدت أي حشود تتحفز لغزو فنزويلا، وفي الجانب الآخر فإن إدارة ترامب تجد أن فرصتها أفضل في فنزويلا القريبة من الأراضي الأمريكية، ولها أصدقاء في كولومبيا والبرازيل المتاخمتين لفنزويلا، بالإضافة إلي مجموعة ليما التي اجتمعت سريعا لتعرب عن قلقها من الانتشار العسكري الروسي، ودعت إلي خروج القوات الروسية من فنزويلا. آخر ما تريده كل دول أمريكاالجنوبية أن تندلع حرب إقليمية، لأنها تدرك أن مثل هذه الحرب قابلة للتمدد السريع في أركان القارة، وتقضي علي ما تحقق من تقدم اقتصادي، وإذا كان اليسار قد تقلص إلي 4 دول فقط إلي جانب فنزويلا مقابل 13 دولة في مجموعة ليما، فإن اليسار يشكل قوة كبيرة داخل بلدان مجموعة ليما، ويمكن أن يحدث استقطاب سياسي يؤدي إلي اندلاع حروب أهلية داخل تلك الدول، ولهذا تسعي مجموعة ليما إلي التخفيف من أجواء الاحتقان وعدم تفجير فنزويلا، لأن الشرر سيتطاير ويشعل النيران في دول الجوار. لكن أخطر ما في أزمة فنزويلا أن روسيا تعتبرها معركة فارقة وخطيرة علي اقتصادها، بينما الإدارة الأمريكية تراها فرصة أخيرة وأكثر سهولة من حربها في سوريا أو العراق، ورغم أن فنزويلا بعيدة عنا آلاف الأميال فإن الحرب يمكن أن تتطاير شظاياها إلي جبهات الجولان أو شرق الفرات أو الأنبار العراقية أو غزة الفلسطينية، فالتشابك كبير ويطوي المسافات في زمن العولمة. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد