ارتكبت الإدارة الأمريكية خطأ جسيما بالتسرع فى الإعلان عن خوض معركة لإسقاط الرئيس الفنزويلى مادورو، ويبدو أنها اعتقدت أن إسقاط مادورو لا يحتاج إلى جهد أو وقت، فكل أدوات القوة متوفرة لدى الولاياتالمتحدة، سواء اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، فصادرات فنزويلا من النفط فى متناول يد الإدارة الأمريكية، ليس لأنها المستورد الأول فحسب، وإنما لأنها ستمنع معظم المستوردين من التعامل مع فنزويلا التى يشكل النفط أكثر من 90% من صادراتها، بل إنها تمسك بالكثير من الخيوط الاقتصادية الأخرى، وجمدت أموالا لفنزويلا لدى بنوكها، وكذلك أصول وممتلكات لشركة النفط الوطنية، إلى جانب القدرة على تحريك أدوات مصرفية وتجارية قادرة على احداث المزيد من الفوضى والانهيار الاقتصادى فى فنزويلا. وتعتقد الإدارة الأمريكية أن انتقال كل من البرازيل والأرجنتين إلى اليمين الرأسمالى بدلا من المسار الاشتراكى سوف يسهل الحصار السياسى لفنزويلا ليتكامل مع الحصار الاقتصادي، وبالفعل أيدت معظم دول أمريكا اللاتينية الصديقة للولايات المتحدة الاعتراف بالرئيس البديل جوايدو، فى الوقت الذى تحركت فيه المدرعات الكولومبية على الحدود مع فنزويلا، فى ظل إشارات أمريكية على أن الخيار العسكرى جاهز، وهو ما أكده نائب الريس الأمريكى مايك بنس ومستشار الأمن القومى جون بولتون. جاء الدق العنيف والمتصاعد بسرعة لطبول الحرب على فنزويلا يتضع الإدارة الأمريكية فى ورطة، فبعد كل هذه التصريحات النارية والتهديدات واكتمال كل أدوات الحرب لا يمكنها أن تتراجع، وفى نفس الوقت لم يحدث ما توقعته من حدوث فوضى عارمة وسريعة داخل فنزويلا المأزومة والمحاصرة، واندلاع مظاهرات مضادة للرئيس مادورو، وتفكك فى الجيش الفنزويلي، وانهيار فى الهياكل الإدارية للدولة، فلا يملك مادورو سوى التراجع أو الاستسلام .. هذا السيناريو لم يحدث، إنما العكس، فزعيم المعارضة خوان جوايدو هو من ظهر مترددا وحوله أعداد قليلة من المؤيدين لا تتناسب مع الحشود المتدفقة على القصر الرئاسى لتأييد مادورو، وهى ترفع شعارات التحدى للولايات المتحدة، وعندما أصدر المدعى العام الفنزويلى قرارا بالتحقيق مع جوايدو ومنعه من السفر، انطوى هذا الإجراء على أن الرئيس مادورو هو من يمسك بمفاصل الدولة، ليوجه زعيم المعارضة الموالى للولايات المتحدة بخطاب إلى كل من روسياوالصين، قال فيه إن توليه الحكم بدلا من مادورو سيحقق مصالح الدولتين، وأنه ملتزم بجميع الاتفاقيات الموقعة بين فنزويلا وكل من روسياوالصين، ويعكس هذا الخطاب المتودد إلى روسياالصين شعور جوايدو بأن الأمر ليس بيد الإدارة الأمريكية تماما، حتى لو كانت الشواطئ الأمريكية قريبة جدا، وأن الصينوروسيا خلف المحيطات، فالزمن تغير. هل فعلا يمكن أن تفقد الولاياتالمتحدة الزمام حتى فى حديقتها الخلفية؟ الإجابة ليست سهلة، فالولاياتالمتحدة تمتلك مقومات قوة كبيرة، لكنها لا تدير الأمور بحكمة، وإنما بكثير من التخبط والارتباك، وهو ما دفع دول «مجموعة ليما» إلى الإعلان عن رفضها أى تدخل عسكرى فى فنزويلا، رغم صداقتها القوية مع الولاياتالمتحدة، وتأييدها الاعتراف بزعيم المعارضة جوايدو رئيسا مؤقتا، فتلك الدول لا تريد أن تؤدى السياسة الأمريكية إلى إعادة إنتاج الفوضى الخلاقة التى عانت منها دول الشرق الأوسط الجديد، ولا ربيعا لاتينيا ينقلها بسرعة إلى مصاف الدول الفاشلة، وتكتوى بنيران حروب أهلية لا يمكن التنبؤ بحجم الخراب الذى يمكن أن تخلفه، فمعظم بلدان أمريكا اللاتينية تعانى من انقسامات سياسية حادة، وتجارب ديمقراطية هشة، وتواجه أزمات اقتصادية واجتماعية، ومازالت أدخنة الصراعات تتصاعد من غاباتها ومدنها، وهذا الهشيم المكدس لا يحتاج إلى أكثر من بضع طلقات مدفعية أو مدرعات أو طائرات لتندلع النيران فى جوانب القارة. صحيح أن كوبا ونيكاراجوا أكثر قلقا وتأهبا لأى تحرك أمريكي، لأنهما تدركان أنهما على رأس قوائم المطلوبين من الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب. هذا هو التحدى الأخطر الذى تواجهه الولاياتالمتحدة، وهو عدم ارتياح أصدقائها لتلك الطريقة العنيفة فى إدارة العالم وكأنها لم تتعلم من درس سوريا، وتكاد تعيد نفس السيناريو، وإن كان لا يوجد تنظيم داعش، لكن توجد عصابات المخدرات والمرتزقة، لكن هؤلاء أسعارهم عالية جدا، ولا يحلمون بدخول الجنة والحوريات. معركة فنزويلا ليست سهلة كما اعتقدت إدارة ترامب، والفوز بها يتكلف كثيرا إذا مضت فى طريق العنف والفوضى، وإن خسرت معركة فنزويلا فسيكون ضربة أكثر من موجعة، لأنها قرب القلب الأمريكي. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد