رسالة الفدائية «صابحة» ناقلة خرائط تمركزات العدو على صدر طفلها الرضيع قبل وفاتها بأيام: ربنا يقويك يا ريس ويحفظ جيش مصر    إزالة بعض خيام الطرق الصوفية بطنطا بسبب شكوى المواطنين من الإزعاج    مؤسس مقاطعة السمك ببورسعيد ل"كل الزوايا": تأثير المبادرة وصل 25 محافظة    الزراعة ل«مساء dmc»: المنافذ توفر السلع بأسعار مخفضة للمواطنين    «إكسترا نيوز» ترصد جهود جهاز تنمية المشروعات بمناسبة احتفالات عيد تحرير سيناء    اعرف الآن".. التوقيت الصيفي وعدد ساعات اليوم    استقرار أسعار الدولار اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    أستاذ اقتصاد: سيناء تستحوذ على النصيب الأكبر من الاستثمار ب400 مليار جنيه    استقالة متحدثة لخارجية أمريكا اعتراضا على سياسة بايدن تجاه غزة    ادخال 21 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة عبر بوابة معبر رفح البري    في اليوم ال203.. الاحتلال الإسرائيلي يواصل أعمال الوحشية ضد سكان غزة    موعد مباراة الهلال والفتح والقنوات الناقلة في الدوري السعودي    رمضان صبحي: كنت حاسس إن التأهل من مجموعات إفريقيا سهل.. ومقدرش أنصح الأهلي    «الأرصاد» عن طقس اليوم: انخفاض في درجات الحرارة بسبب تأثر مصر بمنخفض جوي    رسالة من كريم فهمي ل هشام ماجد في عيد ميلاده    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فلسطيني يشتكي من الطقس الحار: الخيام تمتص أشعة الشمس وتشوي من يجلس بداخلها    طيران الاحتلال يشن غارات على حزب الله في كفرشوبا    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    إشادة برلمانية وحزبية بكلمة السيسي في ذكرى تحرير سيناء.. حددت ثوابت مصر تجاه القضية الفلسطينية.. ويؤكدون : رفض مخطط التهجير ..والقوات المسلحة جاهزة لحماية الأمن القومى    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 26- 4- 2024 والقنوات الناقلة    صحة القليوبية تنظم قافلة طبية بقرية الجبل الأصفر بالخانكة    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات إلى كييف    "تايمز أوف إسرائيل": تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن 40 رهينة    أول تعليق من رمضان صبحي بعد أزمة المنشطات    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    أبرزهم رانيا يوسف وحمزة العيلي وياسمينا العبد.. نجوم الفن في حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير (صور)    الأسعار كلها ارتفعت إلا المخدرات.. أستاذ سموم يحذر من مخدر الأيس: يدمر 10 أسر    أعضاء من مجلس الشيوخ صوتوا لحظر «تيك توك» ولديهم حسابات عليه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    وزير الخارجية الصيني يلتقي بلينكن في العاصمة بكين    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    «جريمة عابرة للحدود».. نص تحقيقات النيابة مع المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    خالد جلال يكشف تشكيل الأهلي المثالي أمام مازيمبي    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    سيد معوض يكشف عن رؤيته لمباراة الأهلي ومازيمبي الكونغولي.. ويتوقع تشكيلة كولر    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    الشروق تكشف قائمة الأهلي لمواجهة مازيمبي    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغريدات (6)
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 03 - 2019

عندما أخذ الفقهاء يبحثون فى رأس كل مائة سنة عن المُجدّد الذى يصدق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو هريرة: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدد لها دينها»، قال بعضهم إنه عمر بن عبدالعزيز على رأس المائة الأولى، والشافعى على رأس المائة الثانية، وابن سريج أو الأشعرى على رأس المائة الثالثة، وأبوحامد الاسفرايينى على رأس المائة الرابعة، والخامس الغزالى، والسادس الفخر الرازى، والسابع ابن دقيق العيد.. الخ.. ويؤخذ على هؤلاء الفقهاء تزمتهم الحرفى فى تحديد مجىء ذلك المجتهد المجدد على رأس كل مائة سنة بالحساب الدقيق الذى لا تنفع فيه ال99، إلى جانب تعصبهم المذهبى الذى لا يخرج المجدد إلا من رحم الشافعية.. والواقع أن فكرة التجديد لا يمكن أن تقاس بالمتر والشهر والسنة، فقد يحدث ما يستوجب التجديد فى لمح البصر وزمن غاية فى القصر، وما يستوجب التجديد على مدى عمر مديد يشيد فيه الاتجاه الجديد على مهل، لبنة لبنة، وطوبة فوق طوبة، حتى يكتمل البناء على أسس سليمة بجذور ضاربة فى الأرض، وليس مجرد قصور هشة فوق الرمال.. وأبدًا ليس التجديد مقصورًا على الدين، فكل مظاهر الحياة من حولنا متجددة مع الزمن: الدين والعلم والعادات والتقاليد والأدب والفن والغناء والاقتصاد والنظريات السياسية.. الخ.. كلها وليدة الزمان المتغير المستمر فى حركة دائبة، وكم من الفرق بين القلم الكوبيا ولوح الإردواز وسيدنا فى كتّاب القرية، ولوح التابلت والكود وشرائح الإنترنت فى وزارة التربية والتعليم الآن مع قدوم المحارب الفدائى د. طارق شوقى الذى أخذ على عاتقه مهمة تغيير الكون التعليمى!!.. والتجديد معناه مرونة العقل لإحلال أوضاع جديدة طازجة مكان القديمةالبالية، أو تعديل القديم ليتماشى مع الجديد، وهو فى ذلك يتخذ اتجاهين: إما بنسف القديم بالوسائل الثورية، وإما أخذ طرف من القديم وطرف من الجديد ومزجهما على نار سلمية هادئة، وإحلال الناتج المتحرر الجديد محل التعصب الضيق النظر.. وللتجديد قوانين تشبه القوانين الطبيعية فى دقتها واطرادها وتعاقبها، وتبدأ فكرة التجديد لدى فرد أو أفراد قلائل من منطلق شعورهم بسوء الحاضر فيدعون إليها مدعمين بالحجج والمسببات العقلية والشعورية للبرهنة على صحتها، وقد يحدث تقبل الفكرة فتتسع فى موجات تعم الشعب كله، ولكن كثيرًا ما يحدث أن تقاوم الفكرة الجديدة من بعض أصحاب المصالح التى قد تسلب منهم مصالحهم، وتفوّت على المتمسكين بالقديم منافعهم، كما يحدث الآن من أصحاب السناتر والدروس الخصوصية ضد الدعوة إلى منهج الامتحانات الإلكترونية الجديدة.. وهناك ظروف تساعد على نجاح الفكرة الجديدة، على رأسها الطموح إلى حال خير من الحال، وعدل يحل محل الظلم، فتسرى الدعوة إلى التجديد سيران النار فى الهشيم، أما إن كانت الدعوة تسبق زمانها بوقت طويل ولا تلتقى مع عواطف الناس وعقليتهم الحاضرة فقّل أن يكتب لها النجاح لينادى بها صاحبها وحده بلا مجيب فى الصحراء القفر.. وتبعًا لتجارب البشر فإن هناك مجتمعات أسرع قبولاً لفكرة الجديد، وتلك التى سادت فيها مظاهر حرية الرأى والتسامح الفكرى وقبول الآخر بأفكاره ووجهة نظره وزاوية رؤيته وأسباب رفضه وخصومته واختلاف مذهبه، والأخرى التى تقدس الآباء وما صدر عنهم كالذين قال فيهم الله تعالى: «إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على اثارهم مهتدون».. أمة لا تسمح بالاجتهاد فى الدين، ولا تُعمل فيه عقلا، ولا تقيسه بالمصلحة العامة، فهنا يكون الجمود وسد الآذان وإغماض العيون عن كل دعوة إلى التجديد.

ولأن العالم قد غدا قرية صغيرة، فحركات التجديد فى عصرنا أسرع منها فى كل العصور، وما يحدث هناك ينتقل للجانب الآخر فى سرعة البرق، والطبيعة دائمًا تميل إلى وحدة الوجود.. وإذا ما كنا ننشد الآن تجديدًا فى الخطاب الدينى فلقد لمست بارقة منه فى تفسير الآية الكريمة «واضربوهن» حيث لا يتصور المفسّر لها أن يأمر الله بالضرب لشريكة الحياة بمعنى «الجلد» ومن هنا يتعقب كلمة «ضرب» فى القرآن ليأتى بمعنى جديد فيقول «كنت على يقين أن ضرب النساء المذكور فى القرآن لا يمكن أن يعنى ضرب بالمعنى والمفهوم العامىّ، لأن دينًا بهذه الرفعة والرقى، والذى لا يسمح بإيذاء قطة، لا يمكن أن يسمح بضرب وإيذاء وإهانة الأم والأخت والزوجة والابنة».. ويتابع المفسّر كلامه: المعنى الرائع لكلمة «فاضربوهن» فى القرآن ليس كما يفسّرها الآخرون.. حيث يقول الله تعالى فى سورة النساء «واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهُن فى المضاجع واضربوهُن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليًا كبيرًا».. فمن خلال المعرفة البسيطة فى اللغة العربية وتطوّرها وتفسيرها فإن العقوبة للمرأة الناشز أى المخالفة نراه فى هذه الآية تواترية تصاعدية: بالبداية تكون بالوعظ والكلام الحسن والنُصح والإرشاد، فإن لم يستجبن فيكون الهجر فى المضاجع وهى طريقة العلاج الثانية، ولها دلالتها النفسية والتربوية على المرأة، والهجر هنا فى داخل الغرفة.. أما «واضربوهن» فهى ليست بالمدلول الفعلى للضرب باليد أو العصا، لأن الضرب هنا بمعنى المباعدة أو الابتعاد خارج بيت الزوجية.. ولما كانت معانى ألفاظ القرآن تستخلص من القرآن نفسه، فقد تتبعنا معانى كلمة «ضرب» فى المصحف وفى صحيح لغة العرب لنجد أنها تعنى فى غالبها المفارقة والمباعدة والانفصال والتجاهل، خلافًا للمعنى المتداول الآن لكلمة «ضرب» فمثلا الضرب باستعمال عصا يستخدم «جلد»، والضرب على الوجه يستخدم له لفظ «لطم»، والضرب بقبضة اليد «وكز أو لَكَم» والضرب بالقدم «ركل».. وفى المعاجم وكتب اللغة والنحو لو تابعنا كلمة ضرب لنرى مثلا فى قول: «ضرب الدهر بين القوم» أى فرّق وباعد بينهم، و«ضُرب عليه الحصار» أى عزله عن محيطه، و«ضرب عنقه» أى فصلها عن جسده.. فالضرب إذن يفيد المباعدة والانفصال والتجاهل.. وهناك آيات كثيرة فى القرآن تتابع نفس المعنى للضرب أى «المباعدة»: «ولقد أوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْقٍ كالطود العظيم» (سورة الشعراء) أى باعد بين جانبى الماء.. و«للفقراء الذين أُحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض» (سورة البقرة) أى مباعدة وسفرا وهجرة إلى أرض الله الواسعة.. و«وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله» (سورة المزمل) أى يسافرون ويبتعدون عن ديارهم طلبًا للرزق.. و«فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» (سورة الحديد) أى فصل بينهم بسور.. ويقال فى الأمثال «ضرب به عرض الحائط» أى أهمله وأعرض عنه، وذلك المعنى الأخير لابد والله أعلم أن يكون هو المقصود فى الآية.. أما النص «فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن»، فهنا يأتى الوعظ ثم الهجر فى المضجع والاعتزال فى الفراش، أى لا يجمع بين الزوجين فراش واحد، وإن لم يُجْد ذلك ولم ينفع فهنا يأتى «الضرب» بمعنى المباعدة والهجران والتجاهل، وهو سلاح للزوج والزوجة معًا فى تقويم النفس والأسرة، وهناك عبارات بهذا المعنى على ألسنتنا مثل «أضرب عن الطعام» أى امتنع عنه وتركه..».
والله أعلم ثانية وثالثة.. وهنا نسأل أهل العلم.. وإن جاء تفسير المفسِّر على هواّى فى مسألة الضرب بالذات، فالبعد عن أى معتد غنيمة، والعبد يضرب بالعصا والحرّ (الحرّة) يكفيه الإشارة من قبل الوعظ والهجر...
طه حسين.. لم تكن حياته كلها جد وإن غلُب عليها الجد كما ظهر فى الموسوعة الجديدة للمحقق الدءوب إبراهيم عبدالعزيز صاحب ال26 موسوعة والتى استغرقت الأخيرة منه أربعة أجزاء تضم وثائق مجهولة لم تنشر من قبل عن طه حسين على مدى 2201 صفحة لم يأت فيها بالكثير عن الأيام والشعر الجاهلى وسنوات الكتّاب والأزهر والسوربون والعلم الذى كالماء والهواء، وإنما الجديد عن طه العضو فى لجنة مشروع الدستور.. وطه الذى يخطب فى الضباط الأحرار ويحذرهم من الديكتاتورية.. طه الشارح لفلسفة الجراد، وكامل الخلعى الذى يُلحن له أغنية عاطفية، ومحاضراته جميعها، والأسئلة التى دارت من حوله، وطه فى أرض الرسول، وحواره الصحفى مع شاعر الهند محمد إقبال، وعلاقته باليهود، ومهمته فى سوريا، وفى مجمع الخالدين، ولقائه بالشيخ الشعراوى فى مهبط الوحى.. طه الحائر ما بين الضحك والجد القائل لقارئه فى 1923: «أريد أن أكون جادًا وأريد أن أفرح، أو بعبارة أصح أريد أن أضحك ضحكًا لا يخلو من فائدة، فقد سئمت الجدّ، وأحسب أنك سئمته أيضًا، ومن حقك ومن حقى أن نمزح ولو قليلا، ولو يومًا فى الشهر، على ألا يخلو هذا المزاح من نفع، وعلى ألا يكون كلاما يقال ثم ينسى كأنه لم يُقل».. وفى استفتاء أجرته مجلة «الاثنين» عام 1951 كان موضوعه (لو لم تكن آدميًا...) جاءت إجابة طه حسين: «لو لم أكن آدميًا، ما تمنيت شيئًا أكونه بطبيعة وضعى فى الحياة والخليقة، إلا أن أكون (فأرًا) ولعلك تعجب من هذا، ولكن يزول عجبك عندما تعلم أننى أربط هذا الاختيار باختيار آخر، وهو المكان الذى أعيش فيه، ولن أعيش إلا فى مكتبة ضخمة عامرة بشتى أنواع الكتب، فأظل ألتهمها وأتغذى عليها: عقلا وجسمًا وقلبًا، وأستمد حياتى من بقائى معها، وبقائها حولى، فأنا أشك فى أننى أستطيع أن أعيش بلا قراءة واطلاع كائنًا ما كان، فإن ضمنت لى تحقيق هاتين الأمنيتين فلن أتراجع أو أتقهقر»..
وكان طه من أشد المعجبين بنجيب الريحانى، وبعد أيام قليلة من وفاة الريحانى عرض فيلم «غزل البنات» الذى كتب عميد الأدب العربى طه حسين مقدمة الكتالوج المصاحب له بقوله: «إن هذا الرجل ذا الخُلق السمح والقلب النقى قد أضحك المصريين ثلاثين عامًا، أضحكهم حين كانت الأزمات السياسية والاقتصادية تنغِّص نهارهم وتؤرِّق ليلهم، أضحكهم ثلاثين عامًا، فكان لهم صديقًا وفيًّا يشفى الهمّ، ويسرِّى الحزن، ويفرِّج الكربَ، ويردُّ إلى الذين كرهوا الحياة حُب الحياة».. وإذا اقتربنا أكثر من شخصية طه الساخرة، سنجد جاره وصديقه عميد المسرح العربى يوسف وهبى الذى باع له أرض المنزل الذى أطلق عليه طه اسم «رامتان» بمبلغ 2500 جنيه يقول: «كان شخصية ظريفة وربما لا يعرف الناس أنه يعشق النكتة ويضحك لها جدًا، ويتحدث بكل صراحة، ولا يمسُّ أحدًا بسوء، وأبدًا لا يتحدث الفصحى طوال اليوم، والساعات التى نقضيها معًا تكون فى منتهى الظُرف والرِقّة، وكنت دائمًا أنكشه علشان أشوف رأيه فى اللغة الفصحى، وهو ضد العامية.. وفى يوم من الأيام وأنا خارج من بيتى، إذا بى ألتقى فى الصباح بالدكتور يركب عربيته، فقلت له: صباح الخير يا عميد الأدب، فأجابنى: بونجور.. فقلت له: والله أنا باقول صباح الخير وخايف تزعل منى، تقوم تقول لى بونجور بالفرنساوى، فقال لى: الله... انت بايع لى الأرض علشان تألِّس علىّ ولاّ إيه! وفى تلك الأيام جمعتنا لقاءات فى وزارة الثقافة لتقرر مصير اللغة العربية التى يُكتب بها للمسرح، وكان الحضور: أم كلثوم وفكرى أباظة وأنا وطبعًا الدكتور طه حسين الذى كان يُفضل الفصحى حتى تفهمها جميع البلاد العربية، أما أم كلثوم خفيفة الدم التى أرادت أن تُجامل طه حسين فقالت: ممكن يكتبوا بلغة الجرايد، فرّد عليها الدكتور طه قائلا: طيب يا أم كلثوم، المرة الجاية تغنى لنا: «غنى لى قليلا قليلا مش شوية شوية» وانفجر الجميع فى الضحك.. وتجد اللجنة المُشكَلَّة فى مجلس الفنون والآداب عام 1959 لمناقشة موضوع إحياء تراث رواد الموسيقى: سيد درويش، وكامل الخلعى، وداود حسنى الأغنية القنبلة المكتوبة بخط كامل الخلعى والمكتوب عليها «من تأليف الشيخ طه حسين» بعنوان «أنا مشتاق»: «سامحنى.. فى العشاق أنا مشتاق.. أبكى وأنوح بالأشواق.. صدقنى.. عهدك فين يا نور العين.. بالمفتوح تهوى اتنين؟! جاوبنى.. واحد بس يهوى القلب.. قلبى يبوح له بالحب.. طاوعنى.. أنا أهواك.. مين قَسَّاك. أنا مجروح. وغايتى رضاك. واصلنى.. ما أحلاك وقت رضاك.. لمّا تلوح ما أبهاك.. طاوعنى جاوبنى واصلنى.. سامحنى».
ولقد كان طه حسين يخاطب زوج ابنته «أمينة» الدكتور محمد حسن الزيات الذى أصبح وزيرًا للخارجية بلقب «عطية» بمعنى أنه عطية الله لابنته، كما كان الزيات نفسه يوقّع بهذا الاسم، وكان ينادى حفيدته الكبرى «سوسن» بلقب «لمبة» ويدللها «يا لمبتى»، وعندما أراد مداعبة سكرتيره فريد شحاتة كتب فيه قصيدة ساخرة حول طريقة تناوله الطعام، والأطرف أنه أملاها على شحاتة ذاته وجاء من أبياتها:
إذا فريد حضر الطعاما رأيته غضنفرا ضُرغامًا
لا تبْقى فى طبق مَلامَا يلتهم المسطردة التهاما
والملح والفلفل واللّحاما حتى إذا ما قارب الختاما
ازدرد الجبنة ثم قاما وثقل الهضم به فناما
ويفاجئنا طه حسين بعشقه لمجالس الذِكر: «أعرف ما يقول الذين ينكرون البدع، وما يقول الأوروبيون عن مجالس الذِكر تلك.. ولكن ماذا تريد منى؟ أحبها وأجد فيها نفسى الضائعة، وأتمثل فيها مصريتى القديمة والجديدة، والمستقبلة، وأشعر فيها بهذا التضامن الذى أحب أن أجده دائمًا بين المصريين، ولا أكاد أصل إلى تلك الصحراء حتى أطلب إلى صاحبى أن يدعو لى مجلس الذِكر، فيجتمع هؤلاء الفلاحون على ذِكر الله كما تعودوا أن يذكروا الله حىّ، وعلى غناء المنشد فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم كما تعودوا أن يستمعوا له.. وإذا أنا شديد الشوق إلى أن أنضم إلى حلقتهم فآتى ما يأتون من الحركات، وأنطق بما ينطقون به من الألفاظ، وأطرب لما يطربون له من الغناء.. قل ما شئت وتصورنى كما أحببت، واحكم علىّ بما تريد أن تحكم به، ولكنى أحب حلقات الذِكر وأطرب لإنشاد المنشدين، وأجد فى هذا الجو المصرى الخاص لذّة ومتاعًا وشعورًا بالمصرية الخالصة.. الله حىّ».
القدس العربية كما جاء فى خطاب السادات فى الكنيست الإسرائيلى فى 20 نوفمبر 77: «هناك أرض عربية احتلتها ولاتزال تحتلها إسرائيل بالقوة المسلحة، ونحن نصر على تحقيق الانسحاب الكامل منها بما فيها القدس العربية.. القدس التى حضرت إليها باعتبارها مدينة السلام، وليس من المقبول أن يفكر أحد فى الوضع الخاص بها فى إطار الضم أو التوسع، وإنما يجب أن تكون مدينة حرة مفتوحة لجميع المؤمنين.. ودعونى أقول لكم بلا أدنى تردد أننى لم أجئ إليكم تحت هذه القبة لكى أتقدم برجاء أن تجلو قواتكم من الأرض المحتلة، إن الانسحاب الكامل من الأرض العربية المحتلة بعد 1967 بما فيها هضبة الجولان أمر بديهى لا يقبل الجدل ولا رجاء فيه لأحد أو من أحد، ولا معنى لأى خطوة لضمان حياتنا معًا فى هذه المنطقة من العالم فى أمن وأمان وأنتم تحتلون أرضًا عربية بالقوة المسلحة، فليس هناك سلام يستقيم أو يبنى من احتلال أرض الغير».. ويختم السادات خطابه بأقوال منها: «لقد اخترت أن أخرج على كل السوابق والتقاليد التى عرفتها الدول المتحاربة، ورغم أن احتلال الأرض العربية لازال قائمًا، بل كان إعلانى عن استعدادى للحضور مفاجأة كبرى هزت كثيرًا من المشاعر، وأذهلت كثيرًا من العقول، بل شككت فى نواياها بعض الآراء، برغم كل ذلك فإننى استلهمت القرار بكل صفاء الإيمان وطهارته.. واخترت الطريق الصعب بل إنه فى نظر الكثيرين أصعب طريق.. اخترت أن أقدِّم لكم وفى بيتكم الحقائق المجردة عن الأغراض والأهواء.. لا لكى أناور.. ولا لكى أكسب جولة. أخطر الجولات والمعارك فى التاريخ المعاصر. معركة السلام العادل والدائم.. ولقد تساءل الكثيرون، عندما طرحت هذه المبادرة عن تصورى لما يمكن إنجازه فى هذه الزيارة وتوقعاتى منها.. وكما أجبت السائلين، فإننى أعلن أننى لم أفكر فى القيام بهذه المبادرة من منطلق ما يمكن تحقيقه أثناء الزيارة وإنما جئت هنا لكى أبلغ رسالة ألا هل بلغت اللهم فاشهد.. اللهم إننى أردد مع زكريا قوله: «أحبوا الحق والسلام».. واستلهم آيات الله العزيز الحكيم حين قال (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرط بين أحد منهم، ونحن له مسلمون) صدق الله العظيم».. ويعود السادات يروى للبرلمان ما حدث ليوافق أعضاؤه بالإجماع تقريبًا حيث لم يعترض من ال360 إلا ثلاثة أعضاء.. يعود مصممًا على ألا يُضيّع فرصة للحل الجذرى والحضارى لمشكلة السلام فى الشرق الأوسط، ويدعو إلى مؤتمر القاهرة حتى لا تضيع قوة الدفع وترسل الدعوات إلى جميع الأطراف بغية تمهيد الطريق إلى جنيف ولا يتلقى إجابات إلا من أمريكا وسكرتير عام الأمم المتحدة وإسرائيل، ويكتب فى قصة حياته «البحث عن الذات»: «أردد ما قلته أمام الكنيست الإسرائيلى من أننى لا أبغى اتفاقا ثنائيا من أجل سيناء (فهذا لا يحل المشكلة) ولكن سلام عادل بإعادة الأرض العربية المحتلة عام 67 وحل المشكلة الفلسطينية بإقامة دولة أو كما قال كارتر معى وطن قومى فلسطينى، وبطبيعة الحال لابد من ترك التفاصيل الخاصة بكل دولة عربية أو جانب عربى لهم (سيناء مع مصر والجولان مع سوريا والضفة مع الفلسطينيين) وسأستمر فى المناقشة حتى ولو عارضنى العالم كله».
وتحل هذه الأيام الذكرى الأربعون لمعاهدة السلام التى أعادت لمصر سيادتها الكاملة على سيناء دون مستوطنات، وحصلت بها على مساعدات أجنبية منذ 79 حتى الآن تقدر بنحو 69 مليار جنيه من أمريكا، ومكنت مصر من تشغيل قناة السويس.. اليوم يعلّق عميد الدبلوماسيين العرب السفير المخضرم عبدالرءوف الريدى قائلا: «لو كانت الدول التى وصل بها الأمر وقتها لتعليق عضوية مصر فى جامعة الدول العربية مثل سوريا وليبيا والعراق قد ساندت السادات لبات الأمر الآن مختلفًا»..
أدور فى البيداء والحضرْ، أجمع من أقوال البشر ما يُجلى البصرْ، وينأى بالعقل عن شرود الفِكرْ، وكانت حصيلتى اليوم: «الديمقراطية كالقبر لا تردُّ ما تأخذ»، «فى السياسة ليست هناك كلمة أخيرة»، «الأشياء العظيمة لا تُرى إلا عن بُعد»، «الجهل لا يحسم نزاعًا»، «سمعت أن شيئين سالبين يكونان موجبًا، ولكن لم أسمع أن لا شيء ولا شيء يكونان أى شىء، «الصلح الظالم خير من القتال العادل»، «الحب كمرض الحصبة خطر إن جاء متأخرًا عن زمنه»، «إنه وطننا أخطأ أم أصاب، أساء أم أحسن»، «الكلام فى البرلمان كالعزف على الكمان يحتاج إلى مران»، «الحزب فِكرة منظمة»، «عصيان الظالم طاعة لله»، «الثورة لا تتراجع»، «ما يسمى ثباتًا فى العظماء يُسمى بلادة فى الحمير»، «عندما ينتهى القانون يبدأ الاستبداد»، «يبقى الأمل ما بقيت الحياة»، «الحب مَلِكْ للشباب، وطاغية للشيوخ»، «لا تسأل عن الاصطبل إذا كان البيت يحترق»، «الممالك بلا عدل غابات مليئة باللصوص»، «من يخاف من حفيف الشجر لا يدخل الغابة»، «عُجْبك بمنصبك دليل على أنك أقلّ منه»، «فن العمارة موسيقى متجمدة»، «قد يكون الدواء أسوأ من الداء»، «الحصان الشجاع يموت فى الخندق»، «نهاية مع رعب خير من رعب بلا نهاية»، «لكل حالة جديدة سياسة جديدة»، «أول دروس الفلسفة أن تعرف الوقت المناسب لكل شىء»، «الحرب لا تحتمل من القائد غلطتين»، «اضرب كما تشاء ولكن اسمع منى»، «من العسير أن تجعل المعدة تصغى لصوت العقل»، «قضيت حياتى مشغولا ولم أعمل شيئا»، «من البلاء أن يكون الرأى بيد من يملكه، دون أن يبصره»، «الذنوب تُخرس الألسنة»، «لا أَوعظ من قبر ولا أَمتع من كتاب»، «إيّاك وعزّة الغضب فإنها تقودك إلى ذلّ الاعتذار»، «أيها العبيد.. انهضوا.. إنهم لا يبدون أمامكم عظماء، إلا لأنكم راكعون»، «مهيب غير محبوب، ليس له صديق فى السر ولا عدو فى العلانية»، «لماذا نحرس على الحياة وأوَّلها صراخ وآخرها أنين»، «الطبيعة تعمل أكثر مما يعمل الطب»، «إنما يُعتذر عمّا لا يمكن تغييره»، «الناس لا يقدّرون البساطة مع أنها مفتاح القلب»، «الكتب أجمل ديكور ولو لم تفتحها»، «كلما عظمت الحقيقةُ عظمَ نقدُها»، «لا ينال النصر بالأيدى بل بالأقدام»، «الثقة يجب أن تأتى مِن أسفل، والقوة يجب أن تأتى من أعلى»، «معنى أن لنا أذنين ولسانًا واحدًا أن نسمع أكثر مما نتكلم»، «الأصدقاء شركاء فى كل شىء»، «من عجّل عطاءه فقد ضاعفه»، «أجيب بأنى لا أجيب»، «أفضل العطاء ما كان مِن معسرٍ إلى معسر»، «إعِدلْ ولو انطبقت السماء على الأرض».
حكم القوى.. حيث كثيرًا ما يتدخل الوضع السياسى فى التفريق ما بين الأحبة، وأبلغ مثال حكاية حب الصحفية النمساوية «فيرا» وزعيم الوفد «مصطفى النحاس» خليفة سعد زغلول فى زعامة الوفد وقيادة الأمة.. وقد بدأت الحدوتة بسفر الزعيم الشاب فى جولة حزبية إلى الوجه القبلى لتصحبه المراسلة الصحفية النمساوية لتغطية الرحلة لصحيفتها فى الخارج، ومن قطار لقطار، ومن مؤتمر لمؤتمر، ومن عزومة عمدة لعزومة حِكمدار توطدت الصداقة ما بين تمساح النيل وحسناء الدانوب الأزرق ليعود كل منهما إلى موطنه بخاطر مشغول وبال غير البال، وقامت «فيرا» بنشر عدة تحقيقات عن واقع الجنوب المصرى فى بلدها، ومن تحت لتحت نما إلى علم محمود فهمى النقراشى باشا أحد كبار رجال الوفد أن رحلة الصعيد لم تنقطع أواصر حميميتها، فهناك جسر من الرسائل الساخنة عبر البحار، والأخطر من العواطف أن هناك مفاوضات سرية تجرى ما بين القصر الملكى وفيرا تساومها فيها لبيع رسائل الزعيم الجديد ليتم نشرها وهدم سمعته، وهو الذى أبدى بترفع عدم اهتمامه بالموضوع كليةً باعتباره مسألة شخصية بحتة.. لكن كبار الوفد وعلى رأسهم مكرم عبيد وأحمد ماهر والنقراشى قرروا الحصول على الخطابات بأى ثمن حتى لا تقع فى يد الملك فؤاد المتربص بالسراى.. وأتت نتيجة مفاوضات «فيرا النقراشى» بطلبها مبلغ ستة آلاف جنيه فى مقابل تسليم الخطابات، وتم جمع المبلغ من الأعضاء ولم ينعم النقراشى بالهدوء إلا وهو يزج بالعواطف الملتهبة فى نار مدفأة مكتبه لتتجعد السطور المتأججة أمام عينيه وتفنى رمادا.. ويخفق قلب النحاس من جديد لحسناء مطلقة فى الاسكندرية تبلغ من العمر 31 سنة هيفاء القوام دقيقة التقاطيع من أسرة محافظة من دارها لبيت العيلة ومن بيت العيلة لشقتها المطلة على المالح، وكان مصطفى النحاس يتولى الدفاع عنها مسبقًا فى قضية طلاقها من زوجها بسبب سوء سمعته.. ويتقدم لطلب يدها من شقيقها القاضى الذى وافق على الفور، لتمضى المؤشرات للنهاية السعيدة المرجوة التى لا يعترض طريقها سوى رجالات الوفد أيضًا الذين يذهبون لأخذ رأى صفية زغلول أم المصريين سائلين: هل ترضين أن تجلس سيدة ترتدى البنطلون على رمال الشاطئ فى مقعد أم المصريين بعد وفاتك بعد عمر طويل؟!! فيأتيهم الرد المفحم: إن لقب الأم هو اللقب الوحيد الذى لا يورث.. ويصرف النحاس النظر عن الخطوبة كما يذكر مصطفى أمين ليكتب الزعيم بعدها فى مذكراته: «فعلا كنت قد كلفت بعض الوسطاء فى أن يعدوا لى لقاء مع حسناء الاسكندرية للحديث الجدى فى مسألة الزواج، وبينما أستعد له جاءنى من يخبرنى بأن الحكومة تنصب لى كمينًا وقد بثت جواسيسها وبوليسها لمراقبتى ومداهمتى وأنا مجتمع بالسيدة، فعجبت لهذا الإجرام وتلك التصرفات الهابطة وأرجأت الموضوع إلى فرصة أخرى».
الوسوسة.. لاشك أنه مرض يسيطر على عقولنا وهو لم يظهر بدون أسباب أو مقدمات، فلقد عانينا خلال قرون طويلة من «الاستعمار» الكلمة التى يدل معناها على جيش أجنبى يحكم البلاد، وسلطة أجنبية تتصرف على هواها فى مصائر الناس، وثروة قومية يستخدمها الأجنبى فى خدمة مصالحة، ومنذ أن احتل الاسكندر الأكبر مصر بجيشه اليونانى سنة 332 قبل الميلاد، وحتى قيام ثورة 1952 كان حُكام مصر أجانب وليسوا من أهلها، فهم يونانيون أو رومان أو أتراك عثمانيون أو مماليك أو أكراد أو فرنسيون أو انجليز، وهذا الوضع الشاذ لم يستمر سنة أو سنتين، بل استمر لمدة تزيد على ألفى سنة متصلة للحكم الأجنبى فى مصر، ولم يكن مسموحًا للمصريين فى كل هذه العصور أن يدخلوا الجيش أو يحملوا السلاح، حتى فى العصور المزدهرة والتى كان المصريون يتعاطفون معها مثل عصر صلاح الدين الأيوبى (1137 1193)، فقد كان جيش صلاح الدين كله من الأكراد الذين لا يثق إلا بهم، وأى قراءة متأنية وأمينة لتاريخ مصر تثبت أنها ظلت شعبًا بلا جيش من أبنائها يحميها ويزرع فيها الثقة بنفسها لمدة لا تقل عن ألفى سنة، وهذا التاريخ الطويل المؤلم قد أوجد فينا بذورًا قوية لمرض الوسوسة أكبر العوامل المعطلة لقدرات الأفراد والشعوب، فالحضارة القوية لا تقوم إلا على اليقين، والتخلص من أى تشويش.. ونحن إذا راجعنا حياتنا الراهنة، فى واقعها العملى والفكرى، أو حتى فى أحاديثنا اليومية، فسوف نجد أننا كثيرًا ما نستخدم كلمات «المؤامرة» و«الخيانة» و«العمالة» و«الأبواب المغلقة» و«تحت الترابيزة».. الخ.. ولدينا عدد غير قليل من الباحثين فى التاريخ والسياسة والثقافة والأدب، لا تقع عيونهم إلا على السلبيات والأخطاء الصغيرة أو المواقف المرتبطة بظرف من الظروف، فيقوم هؤلاء الباحثون بتعميم ما يرونه من ذلك كله على الشخصية العامة التى يدرسونها سواء أكان زعيمًا وطنيًا أو أديبًا أو مفكرًا أو رجلا من رجال الدين وكل هذه المواقف هى أثر من آثار الوسوسة ولو ساد هذا المنهج واتسع فلن يبقى لمصر فى تاريخها الحديث زعيم سياسى أو أديب أو مفكر أو مصلح دينى إلا وصفحته ملوثة بالشبهات.. وإن ديننا ليأمرنا بتجنب الوسوسة التى يهمس بها الشيطان «...من شر الوسواس الخناس، الذى يُوسوس فى صدور الناس، من الجِنة والناس»، وفى حياتنا اليومية نجد ألفاظًا كثيرة تتكرر مثل كلمات «المهموز» و«الدبوس» وتلك من آثار حكم المماليك القائم على المؤامرات والاغتيالات التى تتم فجأة وفى الظلام.. والظاهرة الأخرى لمرض الوسوسة فى عجز الكثيرين عن التعاون مع بعضهم البعض، فما من شركة أو عمل يقتضى التعاون بين مجموعة من المواطنين إلا وتعرض للشك وانعدام الثقة بين الأطراف، ونشوب الصراع الحاد حتى ينتهى الأمر بفض الشركة وانفصال كل فرد بعمله الخاص، وفشل العمل الجماعى على جميع المستويات.. لتمسح من فوق اللافتة لفظة «ليمتد» لتغدو «لصاحبها».. ولقد حان الوقت مع مصر الجديدة للخروج من ألفاظ الوسوسة والشكوك والضرب فى مجاهل الظنون أمثال «تقريبًا» و«حوالى» و«معلشى» و«بكرة» و«قل يا باسط» و«بين البنين»!!!
فيروز.. كيفك إنت.. حبيتك بالصيف وبالشتا وعندما تشتى الدنى وعلى شط اسكندرية وعندما سكن الليل.. يا فيروز ما تحلو جلسة دونما صوتك الشجى يغلفنا بشدوك.. ووالله لقد أقسمت للموجودين معى بأنك قد غدوت جزءا من نسيج حياتنا.. من طربنا. من أحلامنا. من يقظتنا وغفوتنا وصباحياتنا وليالينا. نتبادل باقات الزهور عاللا ولالا، ونطرز رسائل الهواتف بيا أنا يا أنا.. ونكرّس عروبتنا براجعين وزهرة المدائن وشوارع القدس العتيقة.. الجدة عندنا يا فيروز تغنى للحفيدة ياللا تنام ريما ياللا يجيها النوم، فتجاوبها عصفورة الشجن تكتك يا أم سليمان، والأم فى مصرنا تدندن عم يلعبوا الولاد ودخلك يا طير الوروار، والولاد فى لعبهم السيارة مش عم تمشى، والبنت الشلبية تصالح حبيبها المجروح ما بيقول على اللى بيوجعو يا عاقد الحاجبين أنا هويت وسألتك حبيبى، فيأتيها بالقمر حبيبى بدو القمر، وسهار بعد سهار نسم علينا الهوا على هدير البوستة... يا فيروز مصر عادت شمسها الذهب.. فيروز يا كنز العرب لا تعيدى قولك عندما كنت وحدك تغنين ألحان الشجن:
أنا صار لازم ودعكن وخبركن عنى
غنينا أغانى عاوراق غِنية لواحد مشتاق
ودايما بالآخر فيه آخر.. فيه وقت فراق
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.