عندما قرأت قصة دولت فهمى إحدى بطلات ثورة 1919 التى اعترفت بأن الشاب عبدالقادر شحاتة كان يبيت عندها فى الليلة التى قام فيها بعملية اغتيال وزير الاشغال محمد شفيق باشا، شغلنى هذا الطالب الشجاع مثلما شغلتنى بطولة دولت فهمى غير العادية. كانت دولت فهمى فتاة جميلة تعمل ناظرة مدرسة وطلب منها الجهاز السرى لثورة 1919 أن تعترف بأن الطالب عبدالقادر شحاتة كان يبيت عندها حتى تنقذ الجهاز السرى للثورة الذى سيتم الكشف عن كل أفراده إذا اعترف عبدالقادر بالعملية الفدائية، وبالفعل قبلت دولت فهمى أن تقوم بهذه التضحية العظيمة من أجل الوطن، واعترفت بهذه العلاقة الوهمية أمام النيابة، لكن سوء حظها أن كاتب النيابة كان من قريتها، فذهب إلى أهلها فى الصعيد وقال لهم: «ابنتكم تعشق طالب ثانوى وأنها اعترفت بذلك فى النيابة، وجاء أهلها من الصعيد وشاهدوا اعترافها بأعينهم فذهبوا إليها وأخبروها بأن خالتها توفت وأخذوها إلى مقابر البلدة وقتلوها، دون أن يعلموا أنهم قتلوا قديسة. هذه هى قصة دولت فهمى كما كتبها مصطفى أمين ومثلتها سوسن بدر فى فيلم عن حياتها. فماذا عن البطل عبدالقادر شحاتة؟ قضى عبدالقادر شحاته أربع سنوات فى السجن ثم خرج عام 1924 بعد الافراج عن المحبوسين السياسيين عقب تولى سعد زغلول رئاسة الوزراء، وذهب يبحث عن دولت فهمى ليتزوجها فأنكر أهلها معرفتهم بها وعرف من الجهاز السرى نهايتها الحزينة. وقد أصدر عبدالقادر شحاتة مذكراته عن العمل السرى فى ثورة 1919 وكتب عنها مصطفى أمين أيضا. كما قامت مجلة المصور عام 1969 بتسليط الضوء عليه فى تحقيق بعنوان الجمعيات السرية فى ثورة 1919، فدائيان من اليد السوداء يرويان ذكرياتهما والفدائيان هما عبدالفتاح عنايات وعبدالقادر شحاتة. وهو العدد الرائع الذى قامت مجلة المصور بإعادة طبعه بمناسبة مرور مائة عام على ثورة 1919. وفيه يحكى عبدالقادر شحاتة بعد أن أصبح شيخا فى السبعين، كما تذكر المصور: كنت أحد طلبة الثانوية وتم تجنيدى من شخص اسمه فهمى قام بتدريبى على فك القنابل وربطها وإلقائها وتأمينها، ويضيف بشاعرية: لم تكن الاجزاء الحديدية صماء بين يدى، كانت تكلمنى، تهمس إلّى، والموت يطل من عيون ذراتها، هذه هى القطع التى تمنع خيانات الخائنين. وكنت متلهفا على تنفيذ مهمتى. وفى اليوم المحدد عندما ظهرت سيارة الوزير وتحفزت لإلقاء القنبلة لكن فى الثانية الأخيرة تنبهت لوجود طفلين فى السيارة مما حال بينى وبين إلقاء القنبلة. فلم أكن قاتلا: لكننى كنت إنسانا يدافع عن وطنه، وعدت إلى بيتى فى حارة النصارى. وفى اليوم التالى أثناء مرور سيارة الوزير فى نفس الميعاد تقدمت حتى أكون على مقربة منها وقذفت القنبلة وانفجرت وملأ المكان الدخان ودوى الانفجار واسرعت أجرى فى شارع معين طبقا للخطة المرسومة لكننى اصطدمت بصديق راح يسألنى عن سر ملابسى العسكرية التى ارتديها والانفجار الذى سمعه. وكنت مرتبكًا فأخذته إلى حنطور ركبناه وقلت للسائق أن يسير إلى العباسية وفى الحنطور ألح علّى صديقى فى معرفة سر الملابس التى ارتديها، فقلت له ساعدنى على خلعها، وكان السائق يسمع كل شيء.. وعندما خلعت ملابسى ظهر المسدس وأصفر وجه صديقى وصرخ: أنت مجنون يا عبدالقادر أنت رميت القنبلة، ولكمته فى فمه، وحاول أن يقفز من الحنطور، فأمسكت به، وكان قد أصبح كالثور الهائج الكلمات تخرج من فمه بلا وعى، يرجونى أن أتركه لأنه لايريد أن يذهب إلى السجن. وكنا قد وصلنا إلى مدرسة بنات وسدت علينا الطريق سيارة شرطة، ووجدت السائق يقفز ويصيح الأفندى اللى رمى القنبلة فى الحنطور! وتركت صديقى الذى ركبه الذعر، وجريت أختفى فى المدرسة. وبقيت داخلها حتى حوصرت وأخذونى فى سيارة إلى المحافظة، وقبل أن أصل إلى النيابة أخذنى جنون الحماس ورحت أصيح وأهتف وأعترف بأننى ألقيت القنبلة لولا أن محافظ القاهرة فى ذلك الوقت محمود فخرى باشا مال على اذنى وقال: الوزير لم يمت فلا تعترف حتى لا تعدم.. لا تكن أحمق! وبرغم ذلك صدر الحكم بالإعدام، وقضيت فى ضيافة الموت 30 يوما، بعدها فوجئت بتخفيف الحكم إلى الاشغال الشاقة المؤبدة نظرا لحداثة سنى، وعندما صدر العفو عن المسجونين السياسيين عام 1924 خرجت وذهبت لمقابلة سعد زغلول. لكن بعد ذلك كانت فى انتظار عبدالقادر أكبر مفاجأتين، الأولى موت دولت فهمى التى حلم بأن يتزوجها وهو فى السجن، والثانية موت البطل عبدالحى كيرة بعد اغتياله بسبع رصاصات فى استانبول، وكيره هو نفسه فهمى الذى قام بتجنيد عبدالقادر شحاتة للعمل الوطنى، فالضربات تتوالى ضد الأبطال دائما لكنهم أقوى. لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز