الجهود التى تبذلها بعض الأطراف الإقليمية والدولية لتشكيل حكومة ليبية والدخول مباشرة فى مرحلة الانتخابات، ستكون معدومة الفائدة السياسية، ما لم تعمل هذه الجهات بإخلاص على إتمام توحيد المؤسسة العسكرية، وتتجنب المراوغات التى جعلتها تتقدم الأولويات عندما تكون هناك فائدة من طرح هذه القضية، وتأخيرها إذا وجد البعض ضرورة لتهميشها. توحيد الجيش الليبى يظل خطوة رئيسية، مقدمة على أى خطوات سياسية جديدة، لأنها سوف تتحطم على صخرة عدم شيوع الأمن، والذى نجح الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر فى تحقيق جانب معتبر منه فى الشرق والجنوب من دون توحيد كامل لصفوفه، فما بالنا إذا كانت جميع عناصره متكاتفة؟ لم شمل جميع العناصر الوطنية فى مؤسسة عسكرية نظامية، السبيل لإجراء الانتخابات المنتظرة بنجاح، وإنهاء المرحلة الانتقالية القلقة، فما فائدة تشكيل حكومة مليئة بالصراعات السياسية؟ وما هى الضمانات الأمنية لتأمين عملية الانتخابات فى ظل استمرار دور الميليشيات المسلحة؟ وهل تستطيع القيادات المنتخبة ممارسة دورها وسط فقدان الحد الأدنى من الأمن فى البلاد؟ الضغط الدولى فى مؤتمر باريس فى مايو الماضي، أخفق فى الوصول لمحطة الانتخابات التى أعلن عن إجرائها قبل نهاية ديسمبر الماضي، لأن الأوضاع الأمنية غير مستقرة، ما يفرض الانتباه لأهمية الدور الذى تلعبه المؤسسة العسكرية لتسهيل الإجراءات السياسية. السيناريو الأممى الحالى يعيد تدوير المرحلة الانتقالية، ويمنح بعض القوى السياسية المرتبكة فرصة لالتقاط أنفاسها، ويوفر لها طاقة أمل للخروج من أزماتها الراهنة، والأخطر أنه يطيل أمد التوتر بصورة مختلفة، ويعيد إنتاج تصرفات سابقة اختبرت وثبت فشلها عمليا، ولذلك لن تجدى عملية استهلاك الوقت، لأنها تزيد الأمور تعقيدا، مع عدم وجود بوصلة واضحة لنهاية الطريق. الملتقى الجامع الذى تكتم على توقيته ومكانه غسان سلامة، من قبل، ويديره بالتنسيق مع منظمة الحوار الإنسانى بكل ميولها الإخوانية، واجه عثرات، حتى أفقدته أهدافه الخفية التعاطف من قبل قطاعات واسعة من المواطنين، ولم تنطل عملية سوء اختيار الأفراد على كثيرين، وأصبح المبعوث الأممى محل انتقادات بسبب انحيازه السافر للإسلاميين، ما جعله يتجنب وجود قوة عسكرية متماسكة تكشف هذه النوعية من الألاعيب. من الأمور المثيرة أخيرا، الإعلان عن تشكيل مجلس للأمن القومي، يمثل القائد الأعلى للقوات المسلحة، هل من الممكن أن يمارس هذا الجسم دوره بنجاح والمؤسسة العسكرية لم تنته من عملية توحيدها؟ الطريقة التى يتعامل بها البعض مع ليبيا لا تزال لم تبرح التوظيف السياسى المؤقت، أملا فى تهيئة الأجواء لتحقيق مكاسب لحظية، وعدم الاكتراث بما يمكن أن تفضى إليه من نتائج سلبية. وللأسف لا يدرك حتى الآن هؤلاء أن المسألة تتجاوز كثيرا اللقطات التذكارية المفتعلة التى تجمع بين قادة الأزمة الليبية، ويتعمدون تجاهل الأساس القانونى والشرعى المطلوب لاستدامة الأمن والاستقرار فى الدولة الليبية. الصيغة المطروحة تتغافل خطة توحيد الجيش، وكأن هناك من يريدون ترك الأمور معلقة، أو يملكون حسابات مستترة تتعارض مع عملية بناء مؤسسة عسكرية قوية، ففى المجلس المقترح كيف يجلس حفتر، أو من يمثله، بجوار ممثلين لوزارة الدفاع فى الغرب، وربما ممثلين لشخصيات وزارية راعية لمصالح عصابات وكتائب مسلحة. يبدو أن بعض الأطراف تستسهل تفكيك وتدوير اتفاق القاهرة لتوحيد الجيش، وتعمل على حرفه عن مساره الوطنى لخلط الأوراق السياسية، رغبة فى القبض على بعض مفاتيح الأزمة الأمنية، وعلى المبعوث الأممى الانتباه إلى أن اللعب بورقة المناصب والترشيحات يمس عصب الديناميكيات الاجتماعية فى ليبيا، فعندما يتحدث عن أسماء محددة عليه يدرك أنها ممثلة لأبعاد جهوية مؤثرة. الأمور لن تستقيم من خلال لعبة تباديل وتوافيق بعيدة عن الخصوصية الاجتماعية فى ليبيا، والحذر عند اللعب بالأسماء مطلوب، والمشاركة فى التسريب عن عمد يمكن أن ينقلب إلى مشكلة تطيل عمر الأزمة الرئيسية، وتضع سلامة والدوائر التى تقف معه فى مأزق، وتضع أمام الجميع الدليل على فقدانهم القدرة على فهم المجتمع الليبى جيدا. عندما نتأمل النسخ المتتالية لتشكيل المجلس الرئاسى والحكومة وجميع المناصب السيادية، التى جرى تسريبها أخيرا، نلاحظ غياب النظرة العميقة، وتنحية عدد من الشخصيات الوطنية الوازنة فى تشكيل يريد تسريع خطوات الحل، فبعض الأسماء المعلنة من مصلحتها تعقيد الأزمة، الأمر الذى يضع البعثة الأممية فى موقف بالغ الحرج، ربما يفسره البعض على أنه تواطؤ مقصود أو تقاعس يرمى إلى مزيد من تكسير مؤسسات الدولة الليبية. التجربة أثبتت أن الأولوية ليست للضغط الدولى فقط، ربما يكون ذلك مهما، لكن مفتاح النجاح الحقيقى يأتى بالتنسيق مع الهياكل السياسية والاجتماعية، ما يحدث حراكا قويا، يؤدى إلى حلحلة الأزمة، لأن الكثير من الجهات التى تستقوى بالخارج بدأت تفقد الثقة فى هذا البعد، الذى لم يفض إلى نتيجة على الأرض، باستثناء تقديم هياكل كرتونية ساعدت على وإطالة الصراع. نقطة البدء واضحة مثل الشمس، وهى عودة توحيد المؤسسة العسكرية إلى الواجهة، باعتبارها النواة الصلبة لكل تحرك جاد فى ليبيا، أما قراءة التطورات بصورة عكسية، أى أن المسار السياسى يؤدى إلى تحريك المسار العسكري، فهو من قبيل المناورات وعدم الرغبة فى الاعتراف بالواقع، فوجود مؤسسة أمنية موحدة ضمانة للرئيس الجديد. الحاصل أن تقدم الجيش الوطني، ضاعف من وتيرة التكهنات بقرب دخوله طرابلس، فى وقت ترى غالبية القوى الغربية أن هذه الخطوة خط أحمر، فالدخول بالقوة معناه المزيد من الفوضى فى العاصمة، حتى لو كانت هناك بعض الدول الغربية تشجع على هذه الخطوة حاليا، بينما الحصول على شرعية عسكرية بتوحيد هذه المؤسسة الوطنية يقود إلى تجاوز هذا الفخ. الترتيبات الأمنية التى أشرف عليها المبعوث الأممى واجهت تحديات عصفت بها، لأنها لم تقم على أسس احترافية، وسمحت لبعض الميليشيات بالمشاركة فيها، ما يفرض وضع الحصان أمام العربة، لأن توحيد قوى الجيش يوقف هذا الارتباك وينهى الكثير من الأزمات الأمنية، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الحلول السياسية. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل