لا يغيب عن خيالى الشوق المتجدد لما عرفناه تاريخيا باسم كشكول الجمسي, وتجاوره فى الذاكرة مفكرة المهمات التى كتبها الجليل حقا وصدقا الفريق الشاذلي، وكانت تلك المفكرة فى جيب وذاكرة كل مقاتل فى أثناء عبور قناة السويس فى أكتوبر 1973. أما كشكول الجمسى فهو تلك الكراسة التى كتب فيها القائد العسكرى الفذ الجمسى جدول حركات المد والجزر لتيارات المد والجزر فى قناة السويس, فضلا عن جدول المناسبات فى الدولة العربية, وتصادف أن تم اختيار يوم العبور المجيد فى يوم احتفال إسرائيلى بعيد مقدس, كما كانت القوات المسلحة المصرية قد وجدت علاجا حاسما لمواسير النابلم التى كان من المفترض فيها أن تجعل سطح مياه القناة جهنم مشتعلة، لكن القوات المصرية قامت بسد فتحات النابلم, واستطاعت مدفعية المياه أن تهزم السد الترابى المسمى خط بارليف. وتحققت معجزة عبور القوات المسلحة المصرية إلى الضفة الشرقية تلك التى كان يحلم السادات بتحرير عشرة سنتميترات منها كى يبدأ من بعدها الحوار مع الكون عن حق المصريين فى تحرير أراضيهم التى تم احتلالها عام 1967. وبقية القصة ببطولتها مازالت مسجلة وحية فى الذاكرة المصرية وكانت المفكرة البسيطة فى جيب كل مقاتل عبر القناة, تضم الخطوات المطلوبة منه وكيف يتصرف فى أى موقف يلقاه. والذى دفع تلك الذكريات لرأسى هو مشهد تكليف السيسى لكامل الوزير بمسئولية وزارة النقل وأرقب من على البعد خطواته الحاسمة فى مسئولية الصحة الذهنية للمسئولين عن قيادة القطارات وكيف يرفع الرجل خريطة المهام لكل تفصيلة من تفاصيل العمل التى تنتظم بها وقائع التواصل بين أرجاء الوطن. وسابق ما لمسناه نحن عموم البشر هو جودة الطرق التى قامت بها الهيئة الهندسية ونأمل, بل ونثق بإذن الله, فى أن ينتقل هذا الانتظام لمرفق السكك الحديدية. ولابد لى من ذكر ما سبق ولمسته من أداء متميز فى نواح مختلفة ومتعددة من حياتنا, وكيف تغير الحال بلمسة من يتقنون فنون صيانة الحياة حين يتولون إدارة ما يصون الحياة. طبعا هناك النموذج العالى المقام فى حياتنا وهو إدارة محمود يونس لقناة السويس من لحظة تأميمها وتخطى العقبات الجسام من هرب المرشدين الاجانب وكيف استطاع تعويض النقص فيهم بضباط البحرية المصرية. وعندما تعطلت الملاحة فى القناة بسبب عدوان إنجلترا وفرنسا وإسرائيل, هزمنا هذا العدوان بالذكاء السياسى الخلاب المعتمد على يقظة شعوب العالم الثالث, أعاد محمود يونس العمل فى قناة السويس لتستمر طريقا مفتوحا بين أقصى الشرق وأقصى الغرب. الامر نفسه قد حدث بعد هزيمة 1967 فقد توقفت الملاحة وبعد صمت المدافع بتأكد انتصار مصر عادت القناة من جديد لتواصل مهمتها. بل وكانت بعد توتر الخامس والعشرين من يناير ثم توهج استرداد الوطن من أنياب الترهل المتأسلم فى الثلاثين من يونيو, وكانت أولى خطوات القيادة لاستقرار هذا الوطن على خريطة أحلام منتجة, كانت الخطوة الاولى هى حفر القناة الموازية, لنثبت من جديد اننا وطن يصون ولايبدد. ولتبدأ المشاريع المتعددة على ضفتى القناة بمدن جديدة. ورغم محاولات محترفى التأسلم حصار مصر بدعايات مسمومة فإن ابداع إتاحة الفرصة لشمس الامل أن تطل على الخريطة المصرية المحاطة من عدم استقرار ليبيا وهوس الهجرة غير المشروعة عبر المتوسط ثم الصراع الأشد وطاة فى المشرق حيث تختلف الفصائل الفلسطينية فلا تمنحنا فرصة بناء جسور التلاقى فيما بينها، ولا يمكن إغفال الرؤية عما يحدث فى الجنوب الذى تستكمل فيه إثيوبيا سدها المائي، فنحرص على التواصل لصون الحقوق التاريخية. وفى الوقت نفسه لم تهدأ الخارجية المصرية فى إعادة التوهج للعلاقات المصرية الإفريقية بشروط العصر الذى نحياه بعد فترة من الترهل الصاعق لما سبق وزرعه عبد الناصر وكيف اعتبرها بطرس بطرس غالى فى سنوات عمله بالأمم المتحدة وما قبلها وما بعدها, اعتبرها هذا المصرى الهادئ الجسور هى قضية عمره. وما رتبه تلاميذه من أساطين الخارجية المصرية، وكانت الصحوة المعاصرة بعودة مصر لإفريقيا وعودة إفريقيا لمصر. ولعل ما شهدته أسوان منذ الخميس الماضى كعاصمة للشباب الافريقي, لعل هذا المشهد هو تنبيه مصر للكون أن مصر تصون ولا تغدر, تبنى ولا تنهب ؛ تستمد إنسانيتها من زراعة رفعة قارتها. عن نفسى لا أنسى درجة الفرح المشحون بالشجن عندما اجتمع على ارض هذا الوطن تلاحم بين دول الاتحاد الأوروبى والشعوب العربية بشرم الشيخ ، فأوربا التى تزوغ أطماعها لما مضى من سابق استعمار مع معاناتها من موجات الهجرة غير المشروعة وتوجسها من تنافس مستعر بين الصين والولايات المتحدة على ثروات الجنوب عربيا وإفريقيا, هاهى قد حضرت لشرم الشيخ لتتلقى رسالة إنسانية تجيد التمييز بين ظروف الحياة المختلفة فى اوروبا عنها فى محيطنا العربي. ومن بعد نهاية هذا الملتقى المستكشف لأسلوب حياة مختلف يحترم إنسانية البشر بعد نهاية هذا اللقاء جاء حادث محطة السكك الحديدية ليشد الأنظار لما نعانيه من ترهل بعض من اساليب إدارتنا لحياتنا. وجاء تعيين خبرة لها سابق إنجاز وهو تعيين كامل الوزير مسئولا عن النقل. وخبرة الحياة التى أحملها على أكتافى طوال ستين عاما من العمل الصحفى وأدق باب عامى الثمانين وفى قلبى احلام أن ينتشر اسلوب ما انتصرنا به فى اكتوبر وما أنجزناه من حصار لمحاولات الاستعمار العثمانى الأردوغانى هو استعمار منخفض التكلفة باسم التأسلم, فى قلبى احلام ان نزرع ظروف حياة مقبولة لعموم أهل المحروسة باتباع الجوهر الذى سبق وحققنا به انتصارات متعددة ومنوعة, بدءا من بناء السد العالى ثم التصنيع ثم الحرب المنتصرة فى أكتوبر ثم بناء السلام ثم التخلص من قوى التخلف، كان الجوهر فى تحويل احلامنا الضخمة إلى محطات متتابعة من إنجاز متوال عبر خطط واضحة. خبرة السنوات التى أحملها تقول لى لم نحقق إنجازا مشهودا بضجيج الشعارات ولكن بمعرفة كل منا لدور محدد يمكن ان يؤديه. ولتسلم يا هذا الوطن من كل مكروه ، سواء أكان المكروه تخلفا مقصودا او ترهل الاحلام الكسولة التى لا تجد لنفسها خريطة خطوات إلى المستقبل. لمزيد من مقالات منير عامر