يتزامن طرح ومناقشة التعديلات على بعض مواد الدستور المصري، مع تواصل الجدل والحوار على المستوى الدولى حول العقد الاجتماعى الجديد، والذى أصبح محورا رئيسيا فى المنتديات العلمية، والأدبيات الحديثة، سواء الصادرة عن المؤسسات الدولية مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، او الجامعات الدولية مثل مدرسة لندن للاقتصاد وغيرها، والتى أجمعت كلها على أن العقد الاجتماعى الحالى قد فقد قدرته وبلغ حدوده القصوى، بعد ان أدت استراتيجيات التنمية التى طبقت خلال الفترات السابقة، والمرتكزة على نظرية تساقط ثمار النمو من اعلى، الى نتائج سيئة وتدهور مستويات الخدمات من صحة وتعليم وبنية أساسية، فضلا عن تدنى الإنتاجية السلعية(الصناعة والزراعة) مع إهمال الصناعات التحويلية التى كانت تساعد على استيعاب العمالة ونقل التكنولوجيا، وازدياد الاستثمار فى الصناعات الاستخراجية والقطاعات العقارية، وبالتالى زادت معدلات البطالة واتسع العمل فى القطاع غير الرسمى مع انسحاب المرأة من سوق العمل وتراجع معدلات الادخار والاستثمار، أى انها فشلت تماما فى تحقيق الأهداف المنوطة منها، وادت الى فقدان معنى العيش معا، ومعنى المنفعة العامة، وانعدام الأمان الوظيفى والاجتماعي. كما أنها غير قابلة للاستمرار فى ضوء الأوضاع المالية الحالية، حيث إن سياسة التقشف عن طريق تخفيض النفقات العامة خاصة على بعض الجوانب الاجتماعية كالأجور والدعم، قد أدت فى النهاية الى المزيد من عدم المساواة وسوء توزيع الدخول والمزيد من الاقتراض، وأدى الإفراط فى تخفيض الموازنات الى نتائج عكسية أضرت بأهداف النمو والعدالة الاجتماعية. كما أثبتت تجارب التنمية خلال الفترة الماضية خطأ القول بأن رفع مستوى المعيشة لن يتم إلا عن طريق رفع معدلات النمو فقط، فيمكن أن يزيد معدل النمو عن طريق إنتاج بعض السلع الكمالية التى لا يستهلكها إلا قطاع معين من الشعب، كما أدت هذه التجارب الى زيادة نمو الاستهلاك بمعدل أعلى من نمو الانتاج، ونتيجة لذلك زادت الحاجة الى الاستيراد، ومن ثم المزيد من الضغوط على الميزان التجاري، كما أن الاعتماد على زيادة الاستثمارات وحدها دون الجوانب الاخرى المرتبطة بعملية التنمية مثل تنمية الموارد البشرية أو رفع كفاءة استخدام الموارد المتاحة وغيرهما ادى الى تدهور سريع فى الأوضاع. الأمر الذى أصبح يتطلب اجراء تغييرات فى مجموعة العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المواطنين والدولة والبحث عن نموذج تنموى يتلاءم مع الواقع الجديد، ويبنى على الثقة والاحتواء والشفافية والمساءلة، ويتعامل بصورة أفضل مع المرحلة الجديدة القائمة على الاقتصاد الرقمى والتكنولوجيا ويشجع الإبداع والابتكار ويساعد على توفير فرص عمل جيدة للداخلين الى سوق العمل، ويجعل النمو أكثر احتواء لكل الشرائح الاجتماعية، وقادرا على الاستدامة. مع الالتزام بالمصلحة العامة بوصفها قيدا أخلاقيا على آليات السوق، وهو ما يعنى السماح للجميع بإطلاق قدراتهم مع ضمان توجيهها نحو أهداف مشتركة متفق عليها فى إطار التنمية الشاملة. وهى بعبارة اخرى صياغة عقد اجتماعى جديد، وهنا يأتى الحديث عن الدستور لأنه يمثل العقد الاجتماعى بين المجتمع والسلطة. وتأتى أهمية هذه المسألة فى ضوء ما أشار إليه المفكر الاقتصادى الهندى والحائز على جائزة نوبل أمارتيا صن فى كتابه المعنون: التنمية حرية، إذ أشار إلي: أنها هى عملية توسيع فى الحريات الحقيقية للناس، وبالتالى فهى ليست فقط نموا فى الناتج او زيادة فى الدخول ولكنها بالأساس توسيع نطاق الحريات التى يتمتع بها الافراد والحقوق السياسية والمدنية وحق التعبير والاختيار جنبا الى جنب مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وكان العقد الاجتماعى الحالى قد قام أساسا على ضرورة تقليص الدور الاقتصادى للدولة وتفعيل دور القطاع الخاص، والاندماج فى الاقتصاد العالمى والخصخصة، وهو ما تزامن مع الصعود الفكرى لمدرسة شيكاغو وما تدعو اليه من أفكار وآراء ساعد على رواجها ما آلت اليه التجارب التنموية التى تمت فى البلدان النامية خلال الستينيات من القرن الماضي، حيث أشارت التجارب الدولية المختلفة، إلى أهمية التلازم بين الديمقراطية والتنمية، إذ أن التجارب التنموية التى نجحت قد ارتبطت أساسا بتدعيم آليات المشاركة الشعبية والديمقراطية والشفافية وتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة عند وضع السياسات المختلفة، ولم تقتصر فقط على بعض الإجراءات والعمليات المتعلقة بالانتخابات. وبمعنى آخر فإن التحول الناجح يتطلب بالضرورة وجود حزمة من القوانين المدنية والجنائية الواضحة والمعلن عنها بالقدر الكافى مع إنفاذ القواعد القانونية والتنظيمية ووجود جهاز قضائى مستقل وتعزيز النظام الضريبى والإدارة الضريبية، وزيادة شفافية المالية العامة وتفعيل إجراءات المحاسبة المالية، وتطوير الجهاز الإدارى للدولة مع تفعيل المنافسة، ورغم أن هذه الإجراءات وغيرها قد تستغرق بعض الوقت إلا أنها تعتبر ضرورة قصوى لإنجاح هذه العملية. إذ أثبتت الدراسات العلمية أن الإصلاح الجزئى يؤدى إلى زيادة فرص التربح الاقتصادى لدى البعض من أصحاب المصالح الخاصة، والتزاوج بين السلطة والثروة وانتشار الفساد، مما قد يعوق الانطلاق إلى الإصلاح الشامل نظرا لقدرات هؤلاء فى التأثير على صنع القرار الاقتصادى بالمجتمع. وكذلك ضرورة إنهاء الجدل العقيم، حول حتمية تعارض هدفى النمو السريع واعتبارات العدالة، والذى انتهى تماما إذ يقدم التاريخ الاقتصادى الحديث، العديد من الدلائل على إمكانية تحقيق هذين الهدفين فى آن واحد. ولهذا فان الفلسفة التنموية المقترحة تقوم اساسا على مفهوم التنمية الاحتوائية الشاملة، وترى ان النمو وعدالة التوزيع وجهان لعملة واحدة، وان العدالة الاجتماعية تعد قوة دافعة للنمو الاقتصادي. وذلك انطلاقا من أن السياسات الملائمة للنمو الاقتصادى طويل الأجل، هى تلك التى ترتبط بتحسين توزيع العوائد الاقتصادية على جميع قطاعات وفئات المجتمع. وتتحرك من خلال منظومة تنموية متكاملة تهدف إلى الارتفاع بمعدلات التنمية وتحقيق الرفاهية والارتقاء بمستوى معيشة الأفراد. وذلك من خلال تحديث المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا معتمدة على قراءة علمية ودقيقة للإمكانيات ومتسلحة باستنهاض روح الشعب المصري، ومتمسكة بهويتها الوطنية وقيمها الدينية والحضارية، وعلى وعى وإدراك بالمتغيرات العالمية والإقليمية للاستفادة من مزاياها واكتشاف مخاطرها ومنعها أو على الأقل الحد من تأثيراتها السلبية. وهى أمور تتطلب إرادة سياسية شجاعة، توجه جهود التنمية فى الاتجاه الذى يتسق مع ما نصبو اليه جميعا من امال وطموحات.. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى