في مفتتح الأسبوع الماضي اجتمعت نخبة ثقافية وفكرية وسياسية في المقر الجديد لمكتبة الإسكندرية بالقاهرة, وكان الموضوع الذي ناقشته ورشة العمل هذه, موضوع يتعلق بالتوترات الدينية, ورصد خرائطها, ومحاولة فهمها, فضلا عن قدرات المعالجة المجتمعية لأحداث التوتر الديني. كان ذلك تذكرة مهمة لجهد قامت به جماعة من المهتمين بهذا الملف في وقت كانت فيه حكومة الدكتور عصام شرف بعد الثورة. أكدت هذه المجموعة أهمية هذا الملف في اطار يتعلق بالجماعة الوطنية ولحمتها, وقدرات تعايشها ووحدتها, وكانت الفرصة لأن أتحدث عن خبرة' لجنة العدالة الوطنية' التي باعتباره ملفا من أخطر ملفات هذا الوطن, وفي كل الأحوال تطورت هذه الأمور إلي أحداث طائفية تفاقمت في درجتها وتعاظمت في مآلاتها وتأثيرها, وكانت الفرصة في التعبير عن رؤية كلية لهذا الملف لا نراه ملفا طائفيا أو ملفا دينيا أو ملفا أمنيا كما كان يحلو للنظام البائد أن يتحرك فيه أو يحركه, وبدا الأمر مرة تلو المرة ومن خلال هذه النظرة الضيقة المحكومة بتحكمات الأمن مجالا لتلاعب كبير بهذا الملف ومفاصله رغم خطورته وحساسيته. وفي هذا المقام كان علي هذه اللجنة أن تصحح الرؤية الكلية لهذا الملف في إطار يجمع بين مداخل عدة لزوايا النظر إليه ومجهر الاهتمام به, وبدت خرائط هذا الملف تبدو من التعقد والتعدد والتمدد, وبدت خرائطه المركبةتشير إلي التاريخ القريب بجملة خرائط أحداثه التاريخية, وخرائطه الجغرافية, وكذا خرائطه الدينية, وخرائط الإشكالات الثقافية, وخرائط الخبرات في التعامل مع مشاكل وقضايا وتحديات تتعلق بأزمات الهوية والتكامل القومي, وبدا لنا من ترتيب هذه الخرائط أن نواجه هذا الملف بتراكماته وطبقاته بجغرافيته وخرائطه لنؤكد أن اجتماع المداخل وتكاملها في تفسير هذا الملف هي المدخل الحقيقي والصواب للتعامل مع المعالجة والحل لكثير من قضاياه ومواجهة تحدياته. ويتوجب أن ندخل إلي هذا الملف من خلال المدخل المدني الذي يتعلق بمعاش واجتماع الناس وهو أمر يشير إلي ضرورة ألا ننحبس في دائرة الملف الأمنية أو في دائرته الدينية سواء كان ذلك في التشخيص أو في العلاج وتقديم مقترحات للحل, أما المدخل الذي يترافق مع هذا الأمر وهو مما يمكن تسميته بالمدخل المجتمعيليتحرك هذا الملف ليتشابك مع أحشاء مشاكل المجتمع بأسرها هذا الملف المجتمعي يتحرك صوب' أن رؤية جديدة لصياغة مجتمع جديد كفيلة بأن تبدل منهج النظر لبعض قضايا هذا الملف وقدرات التعامل معه بل والعمل علي إنهائه', إن معان التشابك المجتمعي تعني أكثر ما تعني شمول النظر لطبيعة هذا الملف وشمول المعالجة والحل علي حد سواء. ومن جملة المداخل التي ترتبط بهذا المنظور يقع ما يمكن تسميته بالمدخل القانوني الذي يجعل من التشريع أداة أساسية للتعامل مع هذا الملف وسد كثير من المنافذ التي تنفذ منها عناصر التعصب وأساليب التمييز ونعرات الطائفية, وحجية هذا المدخل إنما تقع في قلب ما يمكن تسميته بالوظيفة الاجتماعية والمجتمعية للقانون تؤكد علي ارتباط معني المشروعية القانونية بمعان الشرعية المجتمعية وحقائق القبول العام, هذا المدخل القانوني لابد وأن يقوم علي قاعدة من إعمال القيم الكلية المتعلقة بالعدالة والمساواة والحرية من دون تمييز وفي إطار من سيادة ودولة القانون. ويبرز ضمن منظومة هذه المداخل المدخل الإعلامي الذي شكل في هذا الملف عملا اتصاليا سلبيا, بل إن الأمر لم يقف عند حد السلبية ولكنه انتقل إلي أشكال من الاتصال المفخخ والمفجر والمتفجر, لا شك أن الوقوف حيال هذا المدخل الإعلامييؤكد علي ضرورة معاني المسئولية الإعلامية في ملفات خطيرة تتعلق بمصالح الوطن وجوهر أمنه. إن هذا المدخل الإعلامي في هذا الملف علي وجه الخصوص الذي يتعلق بإقامة العدالة الوطنية وتأسيس قاعدة المساواة العامة يمكن أن يشكل طاقة إيجابية, وحركة فاعلية لو استطاع الإعلام أن يقوم بمهمته التي تتعلق بصناعة الوعي والتنوير الواجب لحقيقة القضية والتعامل معها.كذلك من أهم المداخل المدخل السياسي المؤسسي الذي يتحرك بطاقة المؤسسات السياسية المختلفة من حيث اجتماعها لتكون جزءا من الحل وليست تفاقما للمشكلة. إن مؤسسات الدولة السياسية وعلي رأسها مؤسسة الرئاسة وكذلك مؤسسات الحكومة والإدارة يجب أن تتعاون جميعا في التعامل الحساس مع هذا الملف بكل طاقة وبكل اخلاص يتطلب عمل الجميع وتكافل المجموع. ويأتي المدخل التنموي والاقتصادي ليعبر عن امكانية حقيقية للتعامل مع هذا الملف بما يحقق مواجهة كل عناصر الافقار التي كان يتبعها النظام البائد ذلك أن الكثير من المشكلات الطائفية تبدو مسكونة بأسباب اقتصادية تتعلق في معظمها للفقر المدقع والجهل المتفشي, ومن ثم يعد المدخل التنموي حركة ايجابية لمعالجة هذا الملف مترافقا مع مداخل أخري ومسالك متنوعة للوقاية والحل.ومن المهم أن نشير كذلك ضمن منظومة هذه المداخل إلي المدخل الأمني الذي يقع في مقامه ومكانه لا باعتباره متحكما في هذا الملف ومفاصله, ويتوج كل ذلك مدخل تعليمي ودراسي وتربوي آن الآوان ليشكل طاقة إيجابية في تحقيق تماسك الجماعة الوطنية والتأكيد علي عناصر العيش الواحد المشترك في اطار من التعايش وإدارة التعدد مهما كانت صوره أو تجلياته, ويتأكد أيضا من جملة المداخل مدخل الجماعة الوطنيةالجامع القائم علي أساس خيار المواطنة والذي يؤسس لمثلث المواطنة والمواطن والوطن, يقع هذا المدخل في مواجهة المدخل الأقلوي الذي يثير ويستنفر الأغلبية والأقلية معا. إن مدخل الأقلية والأغلبية في الساحة السياسية أمر مرغوب ومطلوبأما مد هذا المنطق إلي ساحة المجتمع والاجتماع إنما هو محاولة استنفار كل مداخل الطائفية والتعصب بل ومحاولات ومناورات تفكيك المجتمعات. وفي هذا المقام فلابد وأن نتوقف عند المدخل المفاهيمي والمعجم المستخدم في الخطاب المجتمعي حول هذا الملف من كلمات حساسة ربما تساهم في تفخيخ الأدمغة وفي تفجير العلاقات. إن الكلمات في هذا الملف الحساس يجب أن تكون بميزان حساس, ويأتي المدخل القيمي الذي يؤصل المعني والمبني المتعلق بمنظومة القيم لتأسيس قاعدة المساواة والعدل والحرية كقيم كلية حافظة للمجتمع وشبكة علاقاته المجتمعية. في هذا السياق يجب كذلك الوقوف عند اسهام كثير من مكونات المجتمع المدني للتعامل مع هذا الملف بما يستحقه من اهتمام من دون تهويل ربما يقع في بعض مصالح تمويلية, إن الأمر يتعلق بمصالح الوطن العليا في ملف لا يحتمل مثل هذا االنوع من التفكير, وهناك مداخل أخري أهمها ألا نقف عند حدود انتظار الأزمات والأحداث الطائفية حتي يمكننا التعامل معها, بل من الضروري أن تكون هناك مداخل وقائية واستباقية واستشرافية تتعلق بهذا الملف, كذلك فإنه من أهم المداخل أن تكون هناك قدرات لاستثمار طاقات في المجتمعات المحلية وفق أصول اللامركزية لإدارة هذا الملف في إطار من حراك سريع وعمليات احتواء في سياق مراصد للانذار المبكر الذي يتحرك بالسرعة الواجبة والفاعلية المطلوبة. في اطار هذه المداخل المركبة الجامعة لشبكة التفسيرات والمعالجة والبحث عن حلول يكون من المهم أن نحيي ذلك المشروع خاصة أن له من الغطاء القانوني المتمثل في المرسوم الصادر بانشاء مجلس قومي للعدالة والمساواة, الأمر يستحق منا الاهتمام الكافي لتقديم الحل الشافي لمثل هذه الملفات التي تشكل مصدر خطر علي الوطن والمواطن والمواطنة. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح