منذ أسابيع قليلة، وتعليقاً على الضربات القوية التى وجهها الطيران الإسرائيلى لما اعتبره مراكز لتخزين وتطوير الصواريخ الإيرانية التى تُهيأ لتسليمها إلى «حزب الله» كتب «إيال زيسر» فى صحيفة «إسرائيل اليوم» الموالية لرئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو أن «الجرىء ينتصر» معتبراً التردد الإيرانى على تلك الضربات انتصارا كبيرا لإسرائيل، رغم أنه فسر ذلك التردد بأنه «يحتمل أنها (أى إيران) لم ترغب فى أن تشد الحبل أكثر مما ينبغى فى علاقاتها مع سوريا بشار الأسد، وبالأساس فلاديمير بوتين سيد النظام فى دمشق». هكذا فهم الإسرائيليون الامتناع الإيرانى عن التعجيل بدخول مواجهة معهم، وربما يكون هذا الفهم قد تأكد عقب ما اعتبره الإسرائيليون «زيارة ناجحة» لرئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو لموسكو جدد خلالها التفاهمات الإسرائيلية- الروسية السابقة حول أنشطة الطيران الإسرائيلى فى الأجواء السورية، لكن الأهم أنه حظى بأن يكون شريكاً فى اقتراح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ضمن «مجموعة العمل» أو «الآلية» الروسية المقترحة للبحث فى مستقبل سوريا، وبالتحديد فى «ضمان انسحاب القوات الأجنبية من سوريا». لم يهنأ نيتانياهو بانتصاراته المتوهمة، ووجد بعد أقل من أسبوعين أنه مضطر لمراجعة معادلة «الجرىء ينتصر» فى ظل أربع صدمات متلاحقة؛ أولى الصدمات جاءت من بغداد عقب الزيارة الناجحة التى قام بها الرئيس الإيرانى حسن روحانى للعاصمة العراقية، وكشفت نتائجها المتنوعة أن التنافس الأمريكى- الإيرانى على العراق تم حسمه لمصلحة إيران. فزيارة روحانى للعراق التى جرى التوقيع خلالها على مذكرات فى مجالات النفط والتجارة والصحة والنقل وترسيم الحدود البحرية اكتملت باستجابة الحكومة لمطالب القوى السياسية العراقية والبرلمان العراقى بإنهاء وجود القوات الأجنبية فى العراق، وبالذات القوات الأمريكية، رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدى هو الذى أعلن القرار فى مؤتمر صحفى قال فيه «أبلغنا الجانب الأمريكى بأولويات العراق إزاء الوجود العسكرى الأجنبى»، وأكد أن «العراق لن يكون منطقة اقتتال ونزاع إقليمى مطلقاً». قرار معناه أن أمريكا تخرج من سوريا ومن العراق فى حين أن إيران هى التى تتوسع فى فرض وتأكيد وجودها. عبّر عن هذه الصدمة برايان هوك الممثل الأمريكى الخاص لإيران بقوله «إذا كان الأمر يتعلق بأمن وسيادة واستقرار العراق، فإن إيران ليست الجواب.. تريد إيران فتح طريق عسكرى سريع عبر شمال الشرق الأوسط يمكن استخدامه من قبل الحرس الثورى لنقل الصواريخ والأسلحة والمقاتلين.. فإيران تريد تحويل العراق إلى محافظة إيرانية». الإحباط الأمريكى من زيارة روحانى للعراق امتد حتماً إلى الإسرائيليين الذين جاءتهم الصدمة الثانية من أنقرة بعد أن صعد الرئيس التركى مواجهته مع بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية على خلفية تصريحات نيتانياهو حول «يهودية الدولة العبرية» واعتباره أن «إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها (...). وأنها دولة لليهود فقط». وجاء الرد التركى القوى على لسان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى خطاب جماهيرى بأنقرة خاطب فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية بقوله «نيتانياهو عد إلى رشدك، فأنت الظالم الذى يقتل الأطفال الفلسطينيين وهم بعمر السبع سنوات»، مشيراً إلى أن نيتانياهو يحاكم هو وزوجته بتهم «أنه سارق». هذا الاشتباك التركى- الإسرائيلى تضاعفت تأثيراته عقب تصعيد سورى ضد إسرائيل.. التصعيد السورى جاء على لسان فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السورى عبر الجنرال كريستيان لوند قائد قوات الطوارئ الدولية، وأكد فيها أن «سوريا لن تتردد فى استخدام القوة لتحرير هضبة الجولان إذا لم تنسحب منها القوات الإسرائيلية»، هذا التهديد السورى جاء رداً على الزيارة التى اصطحب فيها بنيامين نيتانياهو السيناتور الجمهورى ليندسى جراهام المقرب من الرئيس الأمريكى لهضبة الجولان، والتى وعد خلالها جراهام بأنه «عندما يعود إلى واشنطن سيعمل على إقناع الرئيس ترامب بإصدار قرار بالاعتراف بضم إسرائيل للهضبة المحتلة، ومساعدة السيناتور الصهيونى تيد كروز لتمرير قرار فى الكونجرس فى الإطار نفسه». هذه التحذيرات والتطورات وما تمثله من صدمات أجهضت مبكراً الطموحات الإسرائيلية التى جرى الإفصاح عنها نتيجة لزيارة نيتانياهو لموسكو، وتوقعات الإسرائيليين أن شهر العسل الروسى مع كل من إيران وتركيا قد انقضى وأن صراع المصالح سيفرض نفسه على كل الأطراف، وأن الآفاق باتت مفتوحة أمام إسرائيل لتأسيس شراكة مع روسيا تتجاوز الأزمة السورية وتمتد إلى القضية الفلسطينية وبالتحديد دعم روسيا ل «صفقة القرن» الأمريكية. هذه الصدمات باتت تفرض على إسرائيل إعادة مراجعة حساباتها حسب ما تؤكده مصادر إسرائيلية ترى أن زيارة نيتانياهو لموسكو مازالت مثار تقييمات مختلفة من ناحية مدى قبول بوتين بالتراجع عن تسليم باقى صفقة صواريخ اس 300 لسوريا، أو منع الجيش السورى من استخدام ما تسلمه من هذه الصواريخ ضد إسرائيل، ناهيك عن عدم الوثوق فى جدية وجود تعهد روسى بضبط الوجود الإيرانى فى سوريا فى الوقت الذى تزداد فيه المخاوف الإسرائيلية من مشروع الصواريخ الإيرانية الدقيقة التى يجرى تسليمها تباعاً إلى «حزب الله» والدور الإيرانى المتصاعد فى إعادة تحديث ترسانة صواريخ حزب الله وجعلها أكثر دقة فى التصويب بما يفاقم من خطورتها على الأمن الإسرائيلى، فى الوقت الذى تتضاعف فيه المخاوف الإسرائيلية من جدية الطموحات الإيرانية السورية بالتعاون مع حزب الله بفتح جبهة مواجهة ضدها فى الجولان. هذه المخاوف تجاوزت حدود التوقعات على ضوء الصاروخين اللذين جرى إطلاقهما على تل أبيب من قطاع غزة ليلة الخميس الماضى، سواء كان إطلاقهما متعمداً أم بطريق الخطأ فالرسالة وصلت إلى عمق الأمن الإسرائيلى وهى بالأساس رسالة مزدوجة الأولى أن لدى فصائل المقاومة بقطاع غزة صواريخ قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيلى فى تل أبيب نفسها وإجبار السكان على اللجوء إلى المخابئ، والأخرى أن «القبة الحديدية» الإسرائيلية فشلت فى التصدى لهذين الصاروخين. تطور لا يضع إسرائيل بين كماشة جبهتى جنوبلبنان والجولان فقط بل ويجعل قطاع غزة طرفاً فى جبهة ثالثة باتت مؤكدة فى أى حرب مع إسرائيل قد لا يرى المتهورون من قيادتها أن الجرىء يمكن أن ينهزم إذا لم يحسن تقدير حساباته، ويدرك أنه مأزوم، عندما يؤكد الواقع الفعلى أنه مأزوم وهذا ما لا تريد أ ن تعترف به إسرائيل. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس