قبل أن تهبط الطائرة فى جزيرة مالابو فى المحيط الأطلسي.. كان المشهد من الطائرة خليطاً ساحراً من اللونين الأخضر والأزرق.. الأشجار الكثيفة تنافس أمواج المحيط. لقد كان المشهد أكثر جمالًا حين تجوّلت عند شواطئ العاصمة.. والتقطتُ الصور عند تلك الأنواع المدهشة من الأشجار بينما يصافح السكان المحليون زائريهم بالودِّ والتقدير. إن غينيا الاستوائية التى تقع فى غرب إفريقيا وتقع عاصمتها فى تلك الجزيرة فى شرق الأطلسي.. هى دولة حديثة الثراء.. حيث جرى اكتشاف النفط قبل عدة سنوات.. ومع النفط جرى تعبيد الطرق وتشييد المنشآت.. كما ظهر العديد من المطاعم الحديثة، ومواقع التَّنزه على الطريقة الأوروبية. ثمّة قشرة حداثيّة تحاول أن تتوسَّع لتهزم تراث الفقر والمرض. كنتُ ضمن وفد رسمى برئاسة رئيس الوزراء المصرى الأسبق المهندس إبراهيم محلب، وكان ضمن الوفد رئيسان آخران للحكومة.. المهندس شريف إسماعيل الذى تولى تشكيل الحكومة فيما بعد، والدكتور مصطفى مدبولى الذى يتولى رئاسة الحكومة المصرية فى الوقت الحالي.توثَّقت العلاقات بين القاهرة ومالابو.. والتقى الرئيس السيسى رئيس غينيا الاستوائية أكثر من مرة.. وتنسِّق الدولتان الكثير من المهام فى الاتحاد الإفريقي. قال لى أحد الصحفيين فى غينيا الاستوائية: إنك وأنت واقف هنا فى جزيرتنا.. توجد إفريقيا إلى اليمين وتوجد البرازيل إلى اليسار. هنا يمكنك أن تلقى نظرة على الأفق.. الذى يمتدّ ليشمل القارتين الأكثر معاناة فى عالم اليوم: نحن وأمريكا اللاتينية. لقد أدّى عصر الحداثة فى أوروبا إلى استنفاد الكثير من موارد القارة.. وخروج أوروبا لاستعمار العالم. كما أدّى عصر الحداثة فى آسيا إلى استنفاد الكثير من موارد القارة.. وخروج آسيا للاستثمار فى العالم. فى عام 2001 كان غلاف مجلة الإيكونوميست قارة بلا أمل.. وفى عام 2011 كان غلاف المجلة إفريقيا الواعدة.. وقال دونالد كابيروكا رئيس البنك الإفريقى للتنمية: تُرى بعد عشرة أعوام أخري.. ماذا سيكون العنوان القادم للمجلة. يقصد رئيس البنك الإفريقى أن العنوان سيكون أفضل.. وأنّه ربما يكون قارة الأمل أو إفريقيا الصاعدة. لكن الأمور لا تبدو كذلك.. فلقد مرّت السنوات العشر.. ولاتزال إفريقيا على حالتها. وفى أحيانٍ كثيرة تبدو إفريقيا وكأنها قارة أطلانطس الغارقة.. حيث لاتزال غير قادرة على الصعود إلى السطح.. محطّمةً طبقات الماء، وتحالف الأمواج. لايزال فى القارة الغارقة أكثر من (20) صراعًا ونزاعًا.. ما بين عرقى ودينى وقبلي.. وما بين حركات انفصالية، وحروب موارد، وتدخلات خارجية. لايزال القرار السياسى الإفريقى محدود الاستقلال.. ويتحدَّث المفكر الإفريقى ياش تاندون عن تلك التبعية السياسية بقوله: إنَّ الدول الغربية تشترى بعض المسئولين والمندوبين الأفارقة أثناء إدارة المسائل الدولية. إنها تستدعيهم إلى غرف تشاور خاصة تعرف بالغرف الخضراء. يدخلون إليها رافضين، ويخرجون موافقين على الاقتراحات القهرية للدول الغربية. وحسب تعليق أحد الباحثين: إنها تشبه غرف الفئران التى يرعبون بها الأطفال.. والفئران هنا هى المساعدات الخارجية.لقد أشرتُ فى كتابى الحداثة والسياسة إلى جوانبَ من تحديات القارة.. وسط مساحاتٍ أكبر من تحديات العالم. ومازلتُ أرى أنّه من الضرورى أن تحظى قارتنا باهتمام أكبر من المؤسسات الفكريّة والبحثيّة فى بلادنا. فى إفريقيا يوجد غذاء العالم.. وحسب مؤسسات اقتصادية دولية فإنَّ فى إفريقيا «60%» من الأراضى الصالحة للزراعة غير المستغلّة.. وفى الكونغو الديمقراطية وحدها يوجد «80» مليون هكتار يكفى لإطعام «2» مليار نسمة.. أى أنَّ تلك الأراضى فى الكونغو تكفى لغذاء كل سكان قارات إفريقيا وأوروبا واستراليا. وفى إفريقيا أيضًا.. يوجد ثلث احتياطى الثروة المعدنية فى العالم.. وطبقًا لمجلة أفريك اكسبانسيون التى تصدر فى باريس.. فإن فى إفريقيا «60%» من الكوبالت، «61%» من المنجنيز، «81%» من الكروم، «90%» من البلاتين.. وفيها أيضًا خُمس احتياطيات الذهب والماس واليورانيوم.. فضلًا عن ثروة نفطية توجد فى ثلاثين دولة. فى إفريقيا - كذلك- نخبة مثقفة، وفيها طبقة وسطى صاعدة.. وحركة مدن مزدهرة. فى القارة «22» جائزة نوبل.. وفيها مئات الملايين من أفراد الطبقة الوسطي. وحسب شركة ماكينزى فإن هناك أكثر من «300» مليون شخص ينتمون للطبقة الوسطى الإفريقية.. وطبقًا لصحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية، فإن هناك حركة تمّدن واسعة.. حيث يصل سكان مدينة ماباكو فى جمهورية مالى إلى أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، كما يزيد سكان العاصمة التنزانية دار السلام على الخمسة ملايين نسمة.. أما لاجوس العاصمة التجارية لنيجيريا.. فيزيد عدد سكانها عن العشرين مليون نسمة. فى إفريقيا تتنافس القوى العظمى والوسطى على الموجة الجديدة من الوجود والنفوذ. وحسب تقديرات منظمة لاند ماتريكس المعنيّة باستثمارات الأراضي.. فإنَّ دولًا عديدة باتتْ تشترى هناك.. وتتصدّر الصينوالهند مساحات الأراضى المشتراة فى إفريقيا.. حيث تستثمر الهند فى «1,6» مليون هكتار.. وتستثمر الصين فى المساحة نفسها تقريبًا.. وأمّا اليابان فإنها تستثمر فى مليون هكتار.. من الأراضى الزراعية. لا يمكن بالطبع الخلط بين الاستعمار والاستثمار.. أو وضعهما فى سلّة واحدة.. ولكن حين لا تصبح دول القارة تمتلك رؤية للاستثمار، واستراتيجية للتنمية المستدامة.. فإنَّ فرص الإفادة من الاستثمار الأجنبى لا تكون بالقدر الكافي.إن تحقيق الاستقلال الحقيقى للقارة أمرٌ صعب.. الشمال القوى لا يساعد. إن إفريقيا بالنسبة لأغنياء الكوكب.. هى مصدرُ ثراءٍ فى المواد الخام ومصدرُ إزعاج فى البشر. يرغب العالم المتقدم فى الطبيعة من دون البشر.. القمح واليورانيوم من غير المهاجرين واللاجئين. كل الطرق تؤدى إلى إفريقيا.. ولكن إفريقيا بلا طريق. تبدو لى إفريقيا فى أحيانٍ كثيرة.. وكأنها أطلانطس الثانية.. قارة غارقة على السَّطح.. أو أنها بقايا قارة. تتسلّم مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى.. مدركةً حجم التحديات ومساحات الخطر. ليس من حلٍّ أمام إفريقيا سوى التكاتف الداخلي.. أن يعمل كلُّ أعضاء النادى الإفريقى كفريقٍ واحد.. وحسب تعبير ياش تاندون، فإنَّ تسونامى العولمة عنيفٌ للغاية.. وقارب إنقاذ واحد لا يكفى.. يجب أن يكون هناك أكثر من قارب فى المحيط. لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى