فى روايته البديعة أمام العرش يعقد نجيب محفوظ محكمة لتنظر فى أعمال من تولوا حكم مصر، وقدموا أعمالا عظيمة ورغم ذلك لم يسلموا من النقد. وقد شكل محفوظ المحكمة التى انعقدت بكامل هيئتها المقدسة فى قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب، تسبح فى سمائه أحلام البشر . والتى تتكون من أوزوريس فى الصدر على عرشه الذهبى، وإلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الآلهة، مسندا إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبى القاعة صفت الكراسى المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين. وأوقف صاحب نوبل كل حكام مصر وقادتها العظام من عهد مينا حتى أنور السادات أمام هذه المحكمة ليدافعوا عن أنفسهم.. ويفسروا قراراتهم التى ثار حولها الجدل الكبير.. وكان حورس هو الذى ينادى على كل زعيم ونادى حورس: سعد زغلول فدخل رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، قوى القسمات، جذاب الملامح، وتقدم فى سيره حتى مثل أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ولدت فى إبيانه، درست فى الأزهر، تتلمذت على جمال الدين الأفغانى، عملت محررا بالوقائع المصرية تحت رياسة وأستاذية محمد عبده، انضممت الى العرابيين فى ثورتهم، وفى أول عهد الاحتلال البريطانى اعتقلت كعضو فى جمعية الانتقام وفصلت من وظيفتى، وعملت فى المحاماة، فالقضاء، أخترت وزيرا للمعارف ثم وزيرا للعدل، وعقب انتهاء الحرب العظمى الأولى وإعلان الهدنة توليت زعامة الحركة الوطنية، وأقمتها على أساس متين من الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وناديت بحق مصر فى الحرية والاستقلال، فقبضت عليّ السلطات البريطانية ونفتنى الى جزيرة مالطة، وما أن ذاع الخبر حتى قامت الثورة الشعبية احتجاجا على نفى ومطالبة بالاستقلال، مما اضطر انجلترا الى الافراج عنى، وسافرت مع أعضاء الوفد الى باريس لعرض قضيتنا على مؤتمر الصلح فأغلق أبوابه فى وجوهنا، ودخلنا فى مفاوضات مع الإنجليز دون نتيجة، وحدث انقسام فى الوفد، ورجعت الى مصر، ثم نفيت مرة أخرى إلى جزر سيشل فى المحيط الهندى ولم يفرج عنى الا سنة 1932، وتوليت الوزارة سنة 1942 بعد انتخابات شعبية، ودخلت فى المفاوضات التى سرعان ما فشلت، واضطررت الى الاستقالة عقب اغتيال أحد كبار الإنجليز، ثم ائتلفت الى الاستقالة عقب اغتيال أحد كبار الإنجليز، ثم ائتلفت الأحزاب أمام دكتاتورية الملك، وتوليت رياسة مجلس النواب، تاركا رياسة الوزارة للدستوريين، ودارت المفاوضات من جديد، ولكنى غادرت الدنيا قبل أن أعرف نتائجها.. وتكلم أبنوم فقال: لقد قمت أنا بأول ثورة شعبية فى نهاية الدولة القديمة وقمت أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين فأنت أخى وخليفتى وحبيبى. فقال الملك خوفو: ثمة فرق بين الثورتين يجب أن يذكر وهو أن ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كلها فقرا وأغنياء على الاحتلال الأجنبى.. فقال أبنوم: أعتقد أن الأغنياء لا يحبون الثورة. فقال سعد زغلول: حرصت من أول الأمر على الاتحاد كقوة لا غنى عنها أمام العدو، ولكن ثبت لى أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال. فقال أبنوم: كان يجب أن تتخلص منهم. فقال سعد زغلول: لقد انشقوا عليّ راسمين لأنفسهم طريقا الى الاستقلال يناسب رؤيتهم. وقال الملك مينا: لقد وحدت المصريين كما وحدت أنا مملكتهم فأنت فى ذلك صديقى وخليفتى.. وسأله أمحتب وزير الملك زوسر: رغم ما ثبت لك من زعامة بعد الثورة فإنك قبلت العمل فى ظل الاحتلال قبل الثورة ولم تنضم للحزب الوطنى، ما تفسير ذلك؟ فقال سعد زغلول: كان الحزب الوطنى يدعو الى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة الا بعد الجلاء مما يعنى بقاء الاحتلال الى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة الانجليز عليها، ولا يكفى فى نظرى أن تطالب الناس بسلوك معين ولكن يجب أن يكون هذا السلوك ممكنا دون تهاون أو اجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام، وقد استطاع مصطفى كامل مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديو وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟.. ان اتبعوا مثل زعامتهم هلكوا وان خالفوها مضطرين خانوا العهد، فكيف يدعو أناس الى ذلك المبدأ المتعالى الذى يعز على التطبيق ويورث الشعور بالاثم؟.. ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب؟، وقد قبلت الحياة الرسمية لأمارس من خلالها ما استطعته من مقاومة ومن أداء خدمات لوطنى كان فى أشد الحاجة اليها، وقد اعترف بذلك خصومى قبل أصدقائى.. فقال أوزوريس مخاطبا الجميع: أعمال هذا الزعيم مدونة فى الكتاب لمن يريد أن يطلع عليها، ولكنا فى هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاصلة. ثم خاطب سعد قائلا: زعم خصومك أن الثورة قامت وأنت فى المنفى وأنك لم تفعل شيئا لإشعالها بل إنك دهشت لقيامها كحدث غير متوقع. فما قولك فى ذلك؟ فقال سعد زغلول: كانت حال البلاد تدعو لليأس، وأعترف بأننى دهشت لقيام الثورة كما دهش الزعيم السابق لى وهو محمد فريد ولكنى لم أقصر فى تهيئة الجو لها بالخطابة لدى كل مناسبة والاجتماع بالناس فى بيتى وفى دعوة الناس فى الريف والمدن لتأييدى فى موقفى مما عبأ الشعور القومى، والثورة قامت احتجاجا على نفى فكان شخصى فى الواقع هو مشعلها المباشر. فقال أبنوم: الموقف الخطير يتطلب عادة سلوكا معينا والزعيم القادر هو من يستطيع أن يكون القدوة لهذا السلوك، وقد كان الموقف يحتاج إلى التضحية، فهى أقصى ما يستطيع شعب أعزل أن يقدمه حيال قوة قاهرة، ولما تحدى سعد العدو واضطره إلى نفيه أعطى هذه القدوة المطلوبة ففعل الشعب مثله وقامت الثورة، ومما يشهد لسعد بالعظمة أنه أقبل على التضحية وهو يائس من ثورة تحميه أو تدافع عنه فكانت تضحيته كاملة شجاعة نبيلة لا أمل لها فى أى نوع من النجاة، ولو كان يأمل فى ثورة لقلل ذلك درجة من ضخامة تضحيته.. فقال أوزوريس: وقيل أيضا إن تعصبك لزعامتك هو ما اضطر العقلاء من معاونيك على الانشقاق عليك، فما قولك فى ذلك؟ فقال سعد زغلول: المسألة أننى اندمجت فى الثورة وآمنت بها ووجدت فيها ضالتى التى كنت أبحث عنها طوال حياتى، أما العقلاء فقد كرهوا الثورة وخافوها وقنعوا بالحلول الزائفة، كانوا ذوى مال وخبرة وحنكة ولكن وطنيتهم لم تكن خالصة كما كان إيمانهم بالشعب معدوما.. فقال أوزوريس: وقال بعض أعوانك إنه كان يجب أن تبقى على رأس الثورة ولا تقبل رياسة الوزارة؟ فقال سعد زغلول: كانت وزارتى امتدادا للثورة على المستوى الرسمى.. فقال أبنوم: كنت أفضل أن تأخذ برأى أولئك الأعوان! وهنا قالت إيزيس: لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البار الذى برهن على أن شعب مصر قوة لا تقهر ولا تموت. وقال أوزوريس: إنك أول مصرى يتولى الحكم منذ العهد الفرعونى، وتوليته بارادة الشعب، من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهى المحاكمة، ثم تمضى بسلام إلى محكمتك مصحوبا بتزكيتنا وصادق أمانينا. واتخذ سعد زغلول مجلسه بين الخالدين فى قاعة العدل المقدسة.