رحم الله شهداء الوطن أينما كانوا.. عند الحدود وداخلها، وعلى أرصفة السكك الحديدية تحت الأرض عند مترو الأنفاق، أو فوقها على رصيف باب الحديد. وبعيدا عن التحليلات والتخريجات والإسقاطات، فإن الحوادث المتواصلة والمتكررة، والتى تتحول لدينا إلى كوارث، لا تحتمل المقارنات والمداهنات لأن أرواح البشر لاتحتمل سوى أمانة المعالجة. وإذا كانت الوقائع تختلف من بلد إلى آخر، وكذلك المعطيات والحيثيات، فإن هناك بعدا مشتركا ومحوريا في كافة الحوادث، الفردية والجماعية، اليومية أو الموسمية، وهو أسلوب التشغيل وبرامج الصيانة، وخطط الطوارئ، والسلامة والإخلاء.. وهى برامج وخطط تكاد تكون غائبة في مرافقنا، وخاصة الخدمات الجماهيرية، وأهمها النقل عبر السكك الحديدية. فلنعترف بأن مجتمعنا يفتقد إلى ثقافة "الصيانة" التي تحمل مدلولا وقائيا، فالصيانة تعنى الوقاية، وهذا الغياب يعود لأسباب مهنية وتعليمية ومادية، فقد تعددت الحوادث في بر مصر، دون أن نعتبر أو نعى أو نصحح الأخطاء، ولأننا لم نتغير، فقد وصلت الكارثة إلى المحطة الرئيسية، وكأن الكوارث تقول: حتى المحطة الرئيسية لن تنجوا من المصائب. وأمام ما تسعى الحكومة الحالية لتنفيذه من مشروعات مثل الخصخصة، أو تنفيذ خطوط القطارات الحديثة مثل "القطار المكهرب، والطلقة والمغناطيسي" فإنه من المهم التنبيه بأن الكثير من التجارب لخصخصة قطاع السكك الحديدية حول العالم باءت بالفشل، حتى استقرت معظم الدول على إبقائها في يد الحكومة، فلماذا تفكر الحكومة فى خصخصة هذا القطاع؟!. السكك تواجه تحديات رصدتها دراسة صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية، أهمها عدم الاستغلال الأمثل للشبكة الكاملة من خطوط القطارات، التي تربط بين كافة الموانئ، بسبب طول وتعقيد الإجراءات التي تدفع الشركات إلى استخدام الطرق السريعة.. وتعد تجربة خصخصة القطاع في إنجلترا أهمها، حيث إن الدعم الذي توجه إلى الهيئة زاد ستة أضعاف إلى 6 مليارات إسترليني سنويا عام 2007، وتذهب عوائد القطاع إلى خزائن مجموعة من الشركات الأجنبية، لتصحح الحكومة البريطانية الأوضاع وتعيد السكك الحديدة إليها مجددا.. وفي الأرجنتين، أعيدت خطوط السكة الحديد إلى الحكومة، بعد فشل القطاع الخاص، وفي إفريقيا جنوب الصحراء، باءت الخصخصة بالفشل، ولم تتحسن الخدمة. أما إقامة الخطوط والقطارات الحديثة، فإن فقه الأوليات يقول: "ما يحتاجه المواطن يحرم على السائح".. لا نعترض على مشروعات القطارات المتقدمة، ولكن متى؟!.. لن تكون مشروعات مجدية أو تلقى القبول، إذا لم نزيل من أمام المواطن العثرات اليومية التي تهدد حياته، فلنطور القطاع أولا، وندعمه، لأنه مرفق خدمي للناس، لا يفترض أن يحقق أرباحا، ثم بعد ذلك ننشئ خطوطا جديدة. خلال المؤتمر الدولي للتشغيل والصيانة للدول العربية الذي عقد بالقاهرة مؤخرا، قال د. زهير السراج الأمين العام: "التشغيل والصيانة من أهم ركائز التنمية، مثله مثل المياه والكهرباء والصحة والتعليم"، وهو ما يؤكده الدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء وزير النقل الأسبق: "كفاءة أى مشروع هي في كيفية تشغيله وصيانته".. وللأب الروحي للرواية العربية نجيب محفوظ قول مأثور يقول: "سأكتب أن جميع القيم مهدرة.. لكن الأمن مستتب"، وعلى نمط يحاكي أديبنا نقول: "نعلم أن جميع الخدمات غائبة، لكن الصيانة حاضرة". لمزيد من مقالات ثابت أمين عواد