مازلنا أيها السادة نتصفح معا ذلك الأهرام «العجب العجاب».. الذى كنا نصدره فى شبابنا ولا يقرؤه أحد سوانا.. ولا ينادى عليه بائع الصحف كل إشراقة شمس يوم جديد.. ومع صياح الديكة: «كوكوكو».. والذى لم يكن رئيس تحريره محمد حسنين هيكل.. والذى لم نجرؤ أيامها أن نضع مكان اسمه اسم واحد من كبراء الأهرام أو جهابذة الصحافة والكتابة والفكر.. واكتفينا بأن كتبنا فى ترويسة ذلك الأهرام الداخلى الذى نصدره نحن الشباب: ليس رئيس تحريره محمد حسنين هيكل. ذلك الأهرام الذى كنا نكتبه نحن ونصرف عليه نحن من مكافآتنا الشهرية ومرتباتنا التى لا تكاد تغنى أو تسمن من جوع ويادوب تكفينا طوال الشهر.. أيام كان الجنيه المصرى يتفوق على الجنيه الاسترلينى بجلاله قدره بقرشين أو ثلاثة.. وإذا لم تصدقونى افتحوا أرشيف مكتبة الأفلام المصرية بتاعة زمان لتسمعوا بأذنيكم عمك بشارة واكيم يسأل يوسف بك وهبى هكذا كانوا يكتبون اسمه : معاك مصاري؟ يعنى معاك جنيهات مصرية.. أصل الجنيه المصرى عندنا فى الشام ياحبة عيناتى ضرب الجنيه الاسترلينى على عينه «وخلاه أعور بعين واحدة»! هذا الحوار بالنص ستسمعه كما سمعناه نحن فى فيلم: غرام وانتقام بطولة أسمهان ويوسف وهبى وبشارة واكيم وأنور وجدى. واسمحوا لى هنا أن أفتح لكم بوابة خزانة الأسرار الصحفية التى أحتفظ بها فى جوانحى وفى صدرى.. وفى كراسة أسرارى التى أكتب فيها بين الحين والحين حكايات وحكاوى ومواقف عشتها وكلها حكاوى صحفية كنت شاهدا عليها أو مشاركا فى صنعها فى شبابى الصحفى عندما كنا أيامها لا نملك إلا عافيتنا وشبابنا وجلجلة ضحكاتنا.. وجيوبنا خالية من صنف الجنيهات.. ويكفى صدورنا وقلوبنا العامرة بالأمل والايمان والعزم والإقدام.. على أى حال دعونى هنا أكشف لكم الغطاء عن أسرار لم نبح بها لأحد.. ولم نكتبها إلا فى قلوبنا.. وفى بعض المرات.. على صفحات ذلك الجورنال الداخلى العجيب الذى كنا نصدره فى شبابنا الصحفى ونحن داخل جدران مبنى الأهرام القديم الذى كان قابعا وساكنا راضيا مرضيا فى باب اللوق قبل أن تتدخل يد الهدم بقرار أحمق خطاه وتسويه بالأرض.. والذى مازال مكانه فارغا خاليا يتيما كموقف للسيارات..! ياسبحان الله.. هذا الصرح الاهرامى الشامخ الذى شهد مجد الأهرام.. أيام سليم تقلا وبشارة تقلا وجبرائيل تقلا الصغير.. ثم إنطون الجميل وبشارة الخورى وأحمد الصاوى محمد.. قبل أن يعتلى عرشه الجورنالجى الكبير الذى اسمه محمد حسنين هيكل.. ◘◘◘◘◘ ولأن البابا شنودة الثالث بابا الكرازة المرقصية.. كان قبل أن يجلس على عرش الباباوية فى العباسية.. زميلا لى فى جامعة القاهرة.. يعنى فى قسم الصحافة هكذا أراد هو ولكن كطالب مراقب.. يعنى غير مقيد فى جداول الجامعة.. يدرس الصحافة وفنون الجرانين.. وفى نهاية السنة يحصل على شهادة من الجامعة كمستمع.. ولا أعرف هل هذا النظام التعليمى الجامعى الذى كان على أيامى موجود الآن أم لا..؟ ولأنه كان زميلى فى الجامعة كمراقب وليس كطالب فلا بأس من زيارتى فى جريدة الأهرام بعد قرار الأستاذ هيكل تعيينى كمحرر فى قسم التحقيقات أيامها.. ب 34 جنيها فى الشهر حتة واحدة! وقد كان.. فقد كان يزورونى من وقت لآخر.. وقد جلس معنا فى آخر مرة.. كمراقب فى أحد اجتماعات الدسك المركزى الذى حضره نجيب كنعان مدير التحرير وعبدالحميد سرايا رئيس الدسك المركزى أيامها وهشام بحرى سكرتير تحرير الأهرام.. ذلك كله قبل انتخابه بابا الاسكندرية! وقد كتبنا ذلك كله فى آخر عدد من الجورنال الداخلى.. وعندما أصبح هو بابا الاسكندرية.. حملت إليه هذا العدد الذى تحدثنا فيه عن زيارته الأهرام.. وأذكر أنه قال لى يومها: أنا من اليوم بابا الأهرام. ◘◘◘◘◘ ولكن العجب العجاب حدث عندما دعوت راما وحاما وهما زميلان لى فى قسم الصحافة فى كلية الآداب.. وهما شابان هنديان بوذيان من جامعة نيودلهى.. وقد جاءا إلى القاهرة ليدرسا الصحافة كزائرين.. وكانا يلبسان الملابس الهندية الرمادية التقليدية الطويلة، ويربيان ذقنهما.. ولكنهما للحق كانا بارعين فى الكشف عن الطالع.. يعنى إيه؟ أنتم تسألون وهذا حقكم.. والجواب: يعنى هما يعرفان بدقة ماذا تخفيه لك الأيام إن خيرا تراه.. وإن شرا برضه تراه! ولكن كيف كانا يكشفان عن طالع الإنسان؟.. أنتم تسألون؟.. والجواب: كانت طريقتهما أن يفردا فوق كف يدك عصيا صغيرة طول كل واحد منها نحو خمسة عشر سنتيمترا ثم يقرآن ما بين فراغات تلك العصى الخشبية الرفيعة ويقولان لك طالعك بكل دقة! لم تنته حكاية الهنديين زميليّ فى الجامعة.. بعد.. فقد تصادف عند خروجهما من الأهرام ونحن يادوب فوق قمة درجات السلم أن خرج الأستاذ هيكل فجأة من باب مكتبه المطل على السلم الرئيسى النازل إلى الشارع.. وبمجرد أن شاهداه الزميلان الهنديان هرعا إليه وتحدثا إليه بالانجليزية وقالا له إنهما يريدان أن يجلسا معه ولو لدقائق معدودة.. وابتسم الأستاذ هيكل يومها.. ونظر إليَّ وقال: بس أنا رايح دلوقتى لاجتماع عاجل مع الرئيس عبد الناصر.. لكن لا بأس بلقاء لا يتجاوز ربع ساعة.. وقد كان.. جلس الأستاذ على مكتبه فى غرفته وإلى جواره وقفت نوال المحلاوى سكرتيرته الخاصة المتألقة دائما.. ودخلنا أنا والهنديان.. اللذان فتحا صحيفة معهما وأخرجا منها كبشة من العصى الخشبية تشبه تلك التى يأكل بها الآسيويون الأرز.. ثم طلبا من الأستاذ هيكل أن يفتح يديه ويفردهما.. وألقيا العصى فوق يديه.. ثم راحا يقرآن ما بين الأصابع والعصى.. ثم قالا فى صوت واحد: أنت ياسيدى موعود بالرقم 17.. هذا الرقم مؤثر فى مستقبلك كله.. وقد كان.. فقد أمضى الأستاذ هيكل 17 عاما كرئيس تحرير الأهرام قبل أن يطلب منه الرئيس أنور السادات أن يتنحي! ◘◘◘◘◘ طبعا واقعة قراءة كف الأستاذ هيكل وقعت قبل خروجه من الأهرام بسنوات عديدة. أسمعكم تسألون: وأنت ألم تدخل فى اختبار العصى جمع عصا الهندى المعتبر هذا؟ وجوابي: نعم.. لقد ألقيا هذه العصى الهندية الشقية على كف يدى.. ثم قالا لي: أنت ستصبح رئيسا للتحرير.. مرتين! سألتهما: إزاي؟ قالا: بوذا أعلم! ولكن بعد سنوات تحققت نبوءة الهنديين البوذيين.. عندما أصبحت رئيسا لتحرير مجلة (علاء الدين) أوسع مجلات الأطفال انتشارا حتى يومنا هذا.. وعندما تركتها كان رقم توزيعها قد تجاوز ال 74 ألف نسخة مرة واحدة! أنتم تسألون: طيب والمرة الثانية؟ قلت: عندما أصبحت رئيسا لتحرير مجلة «حابى» التى أصدرتها وزارة الآثار وكان رئيس مجلس إدارتها المكتشف الأعظم الذى اسمه زاهى حواس وأنتم تسألون: وأين هى الآن؟ وجوابي: لقد توقفت بفعل فاعل؟ أنتم تسألون: من هو؟ وجوابي: ثورة يناير هى التى أغلقتها بالضبة والمفتاح! وكانت مجلة حابى للحق وبشهادة الدكتور خليل صابات استاذ الصحافة فى آداب القاهرة زمان والذى فتح لى الباب لكى أذهب إلى الأهرام مع جيهان رشتى عميدة كلية الاعلام فيما بعد: منارة التاريخ المصرى العظيم الذى أضاء الدنيا كلها نورا وعلما وحبا وحضارة تسد عين الشمس ولو كره الكارهون!. ◘◘◘◘◘ ولكننى للحق لا أنسى أبدا.. عندما كنا نعمل تحت إمرة وقيادة ذلك الجورنالجى العظيم الذى اسمه محمد حسنين هيكل هذه الحكاية الطريفة التى أرجو أن تخفف عنكم هموم الحياة ومقالب الرفاق وتقلبات الأيام.. عندما كان صلاح هلال رئيسنا فى قسم التحقيقات أن عزمنا على أكلة كوارع.. وجاء صبى من محل كوارع العهد الجديد يحمل صينية الكوارع الرائعة إلى الأهرام وصعد السلالم الأولى إلى مدخل الأهرام.. ولكن لحظه التعس خرج الأستاذ هيكل فى نفس اللحظة من مكتبه على قمة السلم وشاهد صينية الكوارع يحملها هذا الصبى الذى لا يعرفه وسأل نوال المحلاوى سكرتيرته التى تلازمه طول الوقت: إيه ده.. الولد ده رايح فين بالصينية دي؟ لم ينتظر صبى محل الكوارع رد نوال المحلاوى وصاح فى الجميع: ايه فيه ايه دى صينية كوارع بتاعة صلاح بيه؟ وصلاح بيه هذا هو صلاح هلال رئيس قسم التحقيقات وقتها! لكن الأستاذ أمسك بغطاء الصينية ورفعه إلى أعلى.. ليمتلئ المكان كله برائحة الكوارع النفاذة.. وقال هيكل يومها قولته التى لا تنسي: وكمان كوارع فى الأهرام؟ ولكننا لم نيأس.. فكيف يحرموننا من أكلة الكوارع.. وكان القرار ألا تدخل صينية الكوارع لا من باب الأهرام ولكن من الشباك.. والشباك هو شباك غرفة المصححين المطل على شارع شريف باشا.. فكانت الصينية يحملها الصبى إلى الشباك.. ليتلقفها المصححون.. ولكن ذلك كلفنا صينية كوارع إضافية على حساب صلاح هلال طبعا.. للمصححين.. كانت أيام!{ ------------------------------------------------ (ياسبحان الله.. هذا الصرح الاهرامى الشامخ الذى شهد مجد الأهرام.. أيام سليم تقلا وبشارة تقلا وجبرائيل تقلا الصغير.. ثم إنطون الجميل وبشارة الخورى وأحمد الصاوى محمد.. قبل أن يعتلى عرشه الجورنالجى الكبير الذى اسمه محمد حسنين هيكل..)