شهدت مدينة أبوظبى فى الإمارات، الأسبوع الماضى، حدثا تاريخيا فريدا فى تاريخ البشرية المعاصر، بإعلان وثيقة الأخوة الإنسانية، من جانب الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف والحبر الأعظم فرانسيس بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الكاثوليكية، فى توافق غير معهود بين أتباع أكبر ديانتين فى العالم الإسلام والمسيحية، برعاية سامية من القيادة الإماراتية، ممثلة فى الشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبوظبى نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة والشيخ محمد بن راشد رئيس الوزراء حاكم دبى، جاءت الوثيقة دعوة حارة إلى السلام والتعاون والعدل والإخاء فى عالم يتلظى على جمر الحروب والمظالم والاستعمار والابتزاز والإرهاب، وكأننا نحيا بالفعل فى حرب عالمية ثالثة بالقطعة، لا يكاد شررها ينطفئ فى بقعة، حتى يشتعل فى أخرى. عادة، يوجد فى ساحة العلاقة بين الديانات توتر بين دافعين: الموجود والمنشود، واقع تحكمه الصراعات والتناحر، ولا يخلو الأمر من إشراقات كبروق فى ظلمة الشتاء وغيومه، تمنح أملا باهتا، فى إمكان وجود تفاهم وسلام بين أتباع الديانات، وقد ظل الموجود غالبا، عنفا وحروبا ودماء، على امتداد التاريخ، وتجسدت اللقاءات بين الأديان عبر القرون احتواء وهيمنة، حالة عداء متجذر قابل للانفجار دوما. تركت الحروب الدينية قديما والتمدد الاستعمارى حديثا ميسمها على المشهد إجمالا، مازالت الجروح نازفة فى فلسطين وغيرها من بلاد الدنيا، ظلت المركزية الغربية تتبدى نرجسية دموية ضد الآخر، تثير ردود أفعال رافضة على الشاطئ المقابل، يقول عمر فروخ ومصطفى الخالدى فى كتابهما (التبشير والاستعمار فى البلاد العربية): (إن الأمريكيين والانجليز والفرنسيين والهولنديين ومن لف لفهم يقولون خيرا بأفواههم، بينما آثار أيديهم ظاهرة، فى فلسطين وبلاد المغرب والهند الصينية ..وإفريقيا وفى الولاياتالمتحدة نفسها، إن على هؤلاء كلهم أن يغسلوا أيديهم من دماء ضحاياهم على الأقل، قبل أن يمثلوا على مسرح الإنسانية دور المحسن الكريم). كذلك يشعر الغرب بالخوف من نبت زرع بذوره، عنفا وتوحشا، الإسلاموفوبيا نموذجا. إنها عولمة لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر، تهدد فيها سياسات الليبرالية المتوحشة الإنسان والبيئة بالفناء، على وقع الحروب والفساد والتفاوت الطبقى وغياب العدالة والهيمنة على الشعوب المستضعفة وابتزازها- كما تفعل إدارة ترامب تجاه الدول العربية، وبانحيازها السافر لإسرائيل. تشتعل الكراهية والجريمة والفقر بين الطبقات والدول، تسقط العقائد فريسة للاستغلال النفعى والأهداف السلطوية، تختطفها الأصوليات الدينية وجماعات التوحش التى تُبرّر القتل وإلغاء الآخر، بينما تتزايد حالات الإلحاد وازدراء الأديان، كردة فعل على إرهاب يستغلّ الدين أو جهل بأصوله أوعدم الاكتراث بأهمية حضوره فى المجال العام. وبرغم الشكوك المتجذرة فى أى دعوة غربية للحوار، فإن التحديات الوجودية السالفة الذكر تهدد الإنسان والمدنية والأديان نفسها، وتتطلب خطوات عقلانية ترفض ذهنية التكفير والإقصاء، أو ذهنية التبشير والاحتواء، للدخول فى مرحلة بناء العلاقات والحوار بين أتباع الإسلام والمسيحية، من بوابة التسامح واحترام الخصوصيات والعقائد. إن التسامح فضيلة تستوجبها المجتمعات التعددية، وهو لا يلغى النزاع، بل يفكك مخاطره، ويسمح للمتخاصمين بالتعايش فى ظل التعددية، وإذا كان الاسلام يعترف باليهودية والمسيحية ديانتين سماويتين، من منظور وحدة الديانات الإبراهيمية، تأسيسا على أن (ملة إبراهيم) هى جوهر الدين الواحد وشرارته الأولى، وهى الوحدة الكبرى بين الرسالات فى التصور الإسلامى، على مستوى وحدة الأصل والوحى والتشريعات. فى المقابل أعطت الكنيسة الكاثوليكية إشارات متباينة القوة والوضوح على (تقدير الإسلام واحترامه) فى أزمنة متباعدة، لعل أقواها وأوضحها وثيقة (الأخوة الإنسانية) بالإمارات. صحيح أن كثيرا من تجارب الحوار السابقة فشلت، لكن هذا مدعاة للإصرار على النضال من أجل واقع مغاير، فالبديل إما تناحر بين أتباع الأديان وحروب بين الأمم والحضارات، وإما سلام بين الأديان يقود لسلام عالمى بين الشعوب. ونقطة البدء فى مواجهة المخاطر المحدقة بالإنسانية هى هدم جدران التعصب والكراهية والانتقام، وبناء جسور الحوار، لاسيما بين أتباع الديانات الإبراهيمية، وبالأخص بين الإسلام والمسيحية، وأعتقد أن القمة الإبراهيمية بين الإمام والبابا، على أرض الإمارات أرض التعايش والتسامح والتفاهم، تفتح الباب واسعا أمام إبراز المشترك الروحى بين الأديان، وعودة الروح لحوار إسلامى- مسيحى جاد ومثمر من أجل الإنسان، على قاعدة الإصلاح وتنقية الإيمان من الشوائب، ليكون طريقا إلى المنشود: المحبة والرحمة والتعاون والعطاء، بما يجعل من الإنصاف والقيم والأخلاق سلوكا ونمط حياة جديدا فى العالمين. [email protected] لمزيد من مقالات د.محمد حسين أبوالحسن