لو بكيت أبكى على حظى وللا إللى انكتب ليّه! أبكى فى قلبى، لكن دموعى غالية على عينيّه نسيت الفرح.. وللا الفرح تاه عنّى أجرى وراه الاقى الهمّ ورا منّى ينعى حظه العسر بكلمات صاغها بعد أن ابتاع تذكرة ذهاب مجهولة الهوية.. أو بالأحرى ابتاع ذاكرة جديدة. ودَّع الأرض ومن عليها من الأحبَّة والأصدقاء. ما التفت وراءه مطلقا، فلم تلوح له يد بوداع. سار وحيدا فى طريق من ارتحلوا ثم مضوا غرباء!.. لم يجبره أحد على مغادرة مصر، لكن الظروف كتبت عليه السفر إلى أمريكا لكى تجرى زوجته «رجينا» عملية قلب مفتوح. كانت صدمته عظيمة حين فوجىء ببلاده تعامله معاملة المطرودين! فقد أُرغم النحات والشاعر ابراهيم يوسف ليفى على التنازل عن مصريته والخروج من أرضها فاقدا الجنسية.. لا يملك سوى 20 دولارا، هى القيمة التى حددتها الحكومة لكل يهودى يرحل عن المحروسة. شأن كثيرين من يهود مصر، تجرد من ذكرياته وماضيه، من أحلامه وسعادته.. وسافر مع أسرته إلى أمريكا فى عام 1961 حيث يستقر حاليا فى شيكاجو. «إحنا عايشين فى دنيا لكن ما نملكهاش.. إحنا حلقة فى سلسلة آخرتها مانعلمهاش». كالشمعة يذوب على مشارف الزمن، يحن للأرض التى نبت منها ونبتت منها جذوره. يؤرقه كل هذا الرحيل وليله الطويل. ينبش عميقا فى غور ذاكرته، وهو يسترجع عشرات الجولات التى قطعها فى رحلة العمر: منذ أن ولد فى عام 1922، وكان طفلا وحيدا.. ثم التحاقه بمدارس الحكومة المصرية، وتخرجه فى كلية الفنون الجميلة التى حصل منها على الدبلوم بإمتياز عن مشروع لوحة «ليلة الحنّة». كان إبراهيم قد بدأ حياته المهنية كمدرس بإحدى مدارس القرائين اليهودية التى كانت منتشرة فى مصر آنذاك. ثم انتقل إلى قرية أجا بالمنصورة للعمل فى مدرسة ثانوية. وأخيرا عمل مدرس أول بمدرسة مصر الجديدة الثانويًة التى صمم فيها تمثال لعبد الناصر، بناء على طلب من مكتب الرئيس لناظر المدرسة. رغم السنوات البعيدة، لم تذهب عن ذاكرته اللحظة التى سلّم فيها الملك فاروق باليد عليه هو وزملائه خلال حفل استقبال لتكريم طلاب الجامعات المصرية، وقد منحهم صورا شخصية له تحمل توقيعه. هذه الصورة ضمن لوحات اخرى زيتية، مائية، نحتيّة، فضيّة خاصة بالفنان تمت مصادرتها حين رحل عن مصر. نزف القلم كم من أيام مرت؟! وكم من سنين طويت؟ يحن ابراهيم إلى وطنه الجميل وأهله الطيبين.. وطن كان دستوره المودة والرحمة، لا يميز بين الناس بسبب دين أو عرق. يبحث عنه بين أبجديات اللغة، بين مفرداتها، بين دفاتره المبعثرة. أدمى قلمه نزيف الذكريات عقب الرحيل من مصر كما كان وجعه عظيم بسبب فراق زوجته توأم روحه، فتشكّلت قطرات أحزانه على ورق الخريف وترسّمت فى هيكل الكلمات.. دوّنها فى كتابه «بين اليأس والأمل» بالشعر الحر وقصائد النثر. صفحات تنطق فرحا وتخفى جرحا بين سطورها.. يا كاتب امسك القلم، واكتب قصة غرامى اكتب على سر انكتم فى قلبى وحدى طول أيامى اكتب وعبّر على اللى انظلم، بكلامك أنت مش بكلامى أنا عاشق من حبيبه انحرم، لكن خياله مالى منامي فى غربته يردد الحب كالأهازيج، ويرسمه لوحات بألوان مختلفة حسبما يريد. لا تغيب عنه شمس بلاده، وبنت بلاده.. وإبن النيل. عناوين اعتادت الأذن لحنها: ناس وناس، نفس ضايعه، مكتوب.. كلمة وداع، مصرنا، حب بلا أمل.. أستاذى (مهداة للفنان حسين بيكار).. عشق الجمال، مزاجات، بياع أغانى.. و «زغرودة»: يا بلدى أنا أحب البلدى، أحب ناسها وما بيدى بلدى أجمل شيء عندى، دى أحلى من عسلى وشهدى يا بنت بلدى عليّ حنّى، ولهان والصبر فرغ منّى عملت لك من فنّى صورة الجمال اللى سحرنى منديلك على الراس يا شابة، بلونه الأصفر وغرزته الحلوة مخبى الشعر حبة، ورافع الحاجب حبة لفّة ملايتك تخيّل وتحيّر، بتدارى هىّ القوام وللا عنه بتعبر أمشى وراكى وأدعى.. ربّى كفّر من ذنوبى كفّر بنهارى أفكر فيكى، وليلى أحلم بيكى فكرى فى يوم فيّه، سايق النبى عليكى أسمع زغرودتك فى الحارة، يفرح قلبى يا سمارة أسمعها فى فرحنا يا قادر، ويسمعها كل جار وجارة لا تموت الأعوام والأيام المصرية لأن الوطن لا يموت فى قلبه. لم تفارقه قط خفة الدم المصرى وبساطة الأسلوب.. تراها بوضوح فى وصفه ل «بيّاع الفل» أنا ببيع الورد، والورود أصناف يقولولى هات أقول خد، وهادى جميل أوصاف ورد أصفر وورد أحمر، ألوان وريحة وجمال ورد أبيض، رقة ومنظر.. ولكل لون معنى ودلال معايا الفل والياسمين، ريحة تقرب كل بعيد أنا بنادى للعاشقين، المحروم منهم والسعيد أنا ببيع الورد لكن فى الحب ماليش نصيب لا حب ولا ورد، ولا صاحب ولا حبيب ها هو كعادته كل صباح يحتسى قهوته، تطالعه الأخبار عبر التلفاز، يصحبها ضجيج المدينة وصخب أطفال مروا تحت نافذته.. وبعدها كل شىء يعود إلى رتابته.. كل شىء يعيده إلى ذاكرته المثقوبة المحملة بوجعه. مشهد منقوص لا يكتمل إلا بانتظار الأمنيات. كفي! ما مضى من العمر من انتظارات ومرارات.. مالك يا زمن ومالى! كفانى فى الهم سنين قالوا الكافر صعب عليه حالى.. أومال فين المؤمنين!